وممّا يدلّنا على المعارضة الصريحة ، أنّهم رغم ما شاهدوه من غضب رسول الله ، ومن عقد اللواء له بيده الشريفة ، والأمر لهم بالإسراع والتعجيل ، تثاقلوا وتباطأوا ، ولم يذهبوا حتّى توفّي بأبي هو وأمّي ، وفي قلبه حسرة على أمّته المنكوبة التي سوف تنقلب على أعقابها ، وتهوى في النار ، ولا ينجو منها إلاّ القليل الذي شبّهه رسول الله بهمل النّعم [1] . وإذا أردنا أن نتمعّن في هذه القضية ، فإنّنا سنجد الخليفة الثاني من أبرز عناصرها وأشهر أقطابها ، إذ إنّه هو الذي جاء بعد وفاة رسول الله إلى الخليفة أبي بكر ، وطلب منه أن يعزل أُسامة ويبدله بغيره ، فقال له أبو بكر : ثكلتك أمك يا بن الخطاب ! أتأمرني أن أعزله وقد ولاّه رسول الله [2] . فأين هو عمر من هذه الحقيقة التي أدركها أبو بكر ، أم أن في الأمر سرّاً آخر خفي عن المؤرخين ، أم أنّهم هم الذين أسرّوه حفاظاً على كرامته ، كما هي عادتهم ، وكما أبدلوا عبارة : " يهجر " بلفظ : " غلبه الوجع " ؟ ! عجبي من هؤلاء الصحابة الذين أغضبوه يوم الخميس ، واتهموه بالهجر والهذيان ، وقالوا : " حسبنا كتاب الله " ، وكتاب الله يقول لهم في محكم آياته : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ ) [3] ! وكأنّهم هم أعلم بكتاب الله وأحكامه من الذي أنزل عليه ، وها هم بعد يومين فقط من تلك الرزية المؤلمة ، وقبل يومين فقط من لحوقه بالرفيق الأعلى ، يغضبونه أكثر فيطعنون في تأميره ولا يطيعون أمره .
[1] صحيح البخاري 7 : 209 ، كتاب الرقاق ، النهاية في غريب الحديث 5 : 274 ، كنز العمال 11 : 133 . [2] تاريخ الطبري 3 : 226 ، كنز العمال 10 : 579 ح 30268 ، تاريخ دمشق لابن عساكر 2 : 50 . [3] سورة آل عمران : 31 .