واسمحوا لي أن أروي لكم قصة ذلك الأعرابي الذي بال في مسجد رسول الله بحضرته وبحضرة أصحابه بدون حياء ولا خجل ، ولمّا قام إليه بعض الصحابة شاهرين سيوفهم ليقتلوه ، نهاهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ومنعهم وقال : " دعوه ولا تزرموه واهريقوا على بوله دلواً من الماء ، إنّما بعثتم لتيسّروا لا لتعسّروا ، لتبشّروا لا لتنفّروا " . وما كان من الصحابة إلاّ أن امتثلوا أمره ، ونادى رسول الله الأعرابي وأجلسه إلى جانبه ورحّب به ولاطفه وأفهمه أن ذلك المكان هو بيت الله ، ولا يمكن تنجيسه ، فأسلم الأعرابي ولم يُر بعد ذلك إلاّ وهو آت المسجد في أحسن ثيابه وأطهرها [1] ، وصدق الله العظيم إذ يقول لرسوله : ( وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ) [2] . وتأثّر بعض الحاضرين عند سماع القصّة ، فاختلى بي أحدهم إلى جانب وسألني : من أين أنت ؟ قلت : من تونس ، فسلّم عليّ وقال : يا أخي بالله عليك أن تحفظ نفسك ولا تتكلّم مثل هذا هنا أبداً ، أنصحك لوجه الله . وازددت بغضاً وحنقاً على هؤلاء الذين يدّعون أنّهم حماة الحرمين ، ويعاملون ضيوف الرحمن بهذه القسوة ، ولا يقدر أحد أن يبدي رأيه أو يروي أحاديث لا تتفق وما يروونه ، أو يعتقد غير ما يعتقدونه . رجعت إلى بيت الصّديق الجديد الذي لم أعرف اسمه ، وقد جاءني بالعشاء وجلس مقابلي ، وقبل أن نبدأ في الأكل سألني أين ذهبت ، ورويت له قصّتي من أولّها إلى آخرها ، وقلت في معرض كلامي : يا أخي ، أنا بصراحة
[1] وردت بألفاظ وأسانيد مختلفة ، راجع سنن النسائي 1 : 47 ، السنن الكبرى للبيهقي 2 : 428 ، مسند أحمد 2 : 239 ، 282 ، سنن أبي داود 1 : 94 ، كنز العمال 9 : 348 . [2] سورة آل عمران : 159 .