ذلك اليوم رئيس الجمهورية في كلّ البلاد الإسلامية ، فتراه يُعيّن أحد العلماء المقرّبين يُسمّيه مفتي الجمهورية ، أو أيّ عنوان آخر يعبّر عن ذلك ، ويُكلّفه بالنّظر في مسائل الفتيا والعبادات والشعائر الدينيّة . ولكنّه في الحقيقة ليس لهذا الرجل أن يفتي أو يحكم إلاّ بما تُمليه عليه السلطة وما يُرضي الحاكم ، أو على الأقلّ ما لا يتعارضُ وسياسة الحكومة وتنفيذ مشاريعها . وهذا الظّاهرة برزت في الحقيقة من عهد الخلفاء الثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان ، فهم وإن لم يُفرّقوا بين الدّين والدّولة ، إلاّ أنّهم أعطوا أنفسهم حقّ التشريع بما يتماشى ومصالح الخلافة ، وضمان هيبتها واستمرارها . ولمّا كان لهؤلاء الخلفاء الثلاثة حضورٌ مع النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وصحبة ، فقد أخذوا عنه بعض السنن التي لا تتعارض مع سياستهم . فإنّ معاوية لم يدخل الإسلام إلاّ في السنة التاسعة للهجرة على أشهر الروايات الصحيحة ، فلم يصحب النبيّ إلاّ قليلا ، ولم يعرف من سنّته شيئاً يذكر ، فاضطرّ إلى تعيين أبي هريرة وعمرو بن العاص وبعض الصحابة الذين كلّفهم بالإفتاء على ما يريده . واتّبعَ بنو أُميّة وبنو العبّاس بعده هذه « السنّة الحميدة » أو هذه البدعة الحسنة ، فكلّ حاكم جلس إلى جانبه قاضي القضاة المكلّف بدوره بتعيين القضاة الذين يراهم صالحين للدّولة ، ويعملون على دعمها وتأييدها . وما عليك بعد ذلك إلاّ أن تعرف ماهية أُولئك القُضاة ، الذين يُغضبون ربّهم في إرضاء سيّدهم ووليّ نعمتهم الذي نصّبهم .