لغلبة الغباوة عليه ، وملكة الجهل لقياده ، مضيّعاً لما استودعته الأيّام ، مقصّراً في البحث عمّا يجب عليه علمه ، حتى كأنّه ابن يومه ونتيج ساعته ، ورأيت الناشئ المستقبل ذا الكفاية والجدة مؤثراً للشهوات ، صادفاً عن سبل الخيرات ، ورأيت العلم عنانه في يد الامتهان ، و . . . قد عطّل من الرهان ، تداركت الذماء [1] الباقي ، وتلافيت نفساً بلغت التراقي ، وحبوت أهله مع معرفتي بفضل إذاعته إليهم ، وفرط بصيرتي بما في إظهاره لديهم من الثواب الجزيل والذكر الجميل ، والأحدوثة الباقية على مرّ الدهور ، فلن يصان العلم بمثل بذله ، ولن تستبقى النعمة فيه بمثل نثره ) ) .
وهذا وصف مهما حاولنا التخفيف من حدّته ، فقد يعكس خصائص عصره ولا أقلّ في مصره ، ولا يسعنا أن ننكر صدقه في دقته ، فإنّ من الناس في كلّ عصر وزمان من هم أعداء لما يجهلون ، ويبقى العلماء يعانون منهم ما يعانون ، فكيف بمن يرى في نفسه بذل جهده في الإدلال عليهم مع جميل قصده ، وهم مع ذلك سراع إلى نقده وردّه ، لأنّهم يرون في أفكاره ما لم يألفوه من أفكار السابقين ، فلا مانع من أن يعرضوا عنه ويعادوه ، وربما وصفوه بالمروق عن الجادة التي نشأوا عليها ، فيتبادلوا النقد اللاذع ، بين القائل والسامع ، وهذه سنّة في الحياة لا نعدم شواهدها في عصور اُخرى غير عصر ابن إدريس في كلّ زمان ومكان .
لكن الذي يؤاخذ على ابن إدريس رحمه الله حدّة النقد مع انّ المجدّد مهما تعرّض لقسوة النقود اللاذعة ، لا ينبغي له أن يحيد عن طريقة المجادلة الحسنة بالأدلّة الساطعة ، غير انّ ابن إدريس كان عصيّاً عليه التمتع بذلك الخلق الرفيع ، حتى وصف مجتمعه بكلّ قسوة وجفاء ، بما عرّضه للنقد والهجاء ، ومن ذا يغضي عنه مع قوله في أهل زمانه ، وفيهم من الأعلام ممّن لا يقوى معهم على الخصام ، فقد قال رحمه الله :