أيدي المعتزلة والأشاعرة ، بل وحتى الشيعة الإمامية ، وهذا ما حصل أيّام الناصر العباسي ، فقد كان الرجل يمتاز بطول حكم استدام أكثر من أربعين عاماً ( 575 622 ) وكان يمتاز بعقلية منفتحة سياسياً وعلمياً وعقائدياً ، فقد سمح نتيجة لسياسته المتوازنة بالتدريس بالمدرسة النظامية لمدرسين من أهل الكلام والفلسفة ، بعد أن كان ذلك محظوراً عليهم ، ومقصوراً على التيار السائد المناصر للحاكمين ، وجلّهم من الحنابلة .
3 - نشاط أهل التصوّف ، ونشطت في ذلك الدور أيضاً اتجاهات فكرية مناهضة لتيار السلفيين الحنابلة ، ومن أبرزها الاتجاه الصوفي الذي اتخذ من المنبر وسيلة للوعظ ، ومن لباس الخرقة شعاراً ، ومن الفتوة دثاراً ، وكان الناصر يدعمه حتى كان هو من أهل الفتوة والخرقة ، وله وعنه في ذلك حكايات وروايات ، من شاء الاستزادة فليراجع تاريخه ، وقد انتشرت الربط والزوايا والتكايا في عهده .
4 - نشاط أصحاب المذاهب الفقهية التي تعتمد العقل إلى جانب النص كالشيعة الإمامية والأحناف والشافعية حتى كانت لهم مدارس تخصهم إلى جانب الحنابلة ، وهذا نشاط ملحوظ ، وإن تفاوت أصحاب المذاهب في رعاية الدولة لهم ، فالشيعة مثلاً ، لم ينطووا على أنفسهم ، كما انّهم لم ينضووا تحت راية الحاكمين شأنهم في ذلك عبر تاريخهم الطويل ، بل كانت الاستقلالية الفكرية والمادية هي طريقتهم في الحياة .
وجميع هذه المناحي الفكرية في تلك الحقبة التي عاصرها ابن إدريس كفيلة لأن تولّد في نفسه روح التوثّب ، وتصقل ذهنيته ليخرج على قومه وهم في سبات فقهي عميق ، بمنهج جديد ، وإن لم يكن مألوفاً لديهم من قبل ، فهو نتيجة ما عايش من أحداث ، وما عاصر من نشاطات فكرية ، من مذاهب فقهية جعلته منظّراً جديداً في عقلانية فقهية ، مضافاً إلى كونه من شيوخ أهل الحديث تنتهي إليه جلّ سلاسل الرواة والإجازات .