ينقضوا جناح بعوضة ، بل شاهدوا جميع ذلك ، عدلا محضا وحقّا صرفا لا نقص فيه وانّ كلّ ما يرون فيه نقصا فيرتبط به كمال آخر أعظم منه وما ظنّوه ضررا فتحته نفع أعظم منه ، لا يتوصّل إلى ذلك النفع الَّا به ، فإذا حصل للإنسان هذه المعرفة ، يحصل التوكّل ويطمئنّ قلبه بالتفويض وغير مستعين بآحاد الناس ، لعلمه بانّ وكيله كافيه وهو جواد كريم ، فيكون هذا المتوكل حكمه ، حكم الصبىّ في ثقته بامّه وفزعه إليها وقسم آخر وهو أعلى درجة بل يكون بين يدي اللَّه ، كالميّت بين يدي الغاسل ، لا كالصبىّ يزعق بامّه ويتعلَّق بذيلها ، بل يعلم أنه ان لم يطلب امّه ، فامّه تطلبه وتبتدى بارضاعه وان لم يتعلق بذيلها . ولهذا في بعض المقامات يأبون الدعاء والسؤال .
لكن اعلم : انّه ليس من شرط التوكل ترك الكسب والتداوي والاستسلام للمهلكات وذلك خطاء لان ارتباط هذه المسببات بهذه الأسباب من السنة التي لا تجد لها تبديلا . ومثال التارك للكسب ، مثال من لا يمدّ يده إلى الطعام وهو جائع ويقول هذا سعى وانا متوكل ، أو يريد الولد ولا يواقع أهله أو يريد الحنطة ولا يبثّ البذر فانّ تعطيل الأسباب المقدّرة من الخالق ، ابطال الحكمة وهو جهل ، ثم لا يتكل على اليد فربما يفلج وعلى الطعام فربّما يهلك ويفسد ، بل يتكل بقلبه على خالقهما ولا حول ولا قوّة الَّا باللَّه ، فالحول هو الحركة والقوّة هي القدرة ، فإذا كان هذا حالك فأنت متوكّل وان سعيت . وترك الادّخار محمود لمن غلب يقينه وامّا الضعيف الَّذى يضطرب قلبه ، لو لم يدّخر ، لم يتفرّغ للعبادة ، فالأفضل له ان يدع طريق المتوكّلين ولا يحمل نفسه ما لا يطيقه إذ فساد ذلك في حقّه أكثر من صلاحه وكلّ على حسب قوّته وقد ينتهى القوّة إلى أن يسافر في البوادي من غير زاد ، لكن الضعيف إذا فعل ذلك فهو عاص ملق نفسه إلى التهلكة ولا شكّ انّ طول الأمل يناقض التوكّل ، فان قنع بقوت يومه وفرّق الباقي فهو تامّ التوكّل ، كما فعل رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم ومهما قلَّت مدّة الادّخار كانت الرتبة أعظم - جعلنا اللَّه من المتوكّلين - الأصل الثامن : المحبّة ، قال اللَّه تعالى : يُحِبُّهُمْ ويُحِبُّونَه . قال النّبى صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم :