الأصل الخامس : الشكر : قال اللَّه تعالى : واشْكُرُوا لِي ولا تَكْفُرُونِ . وقال :
ما يفعل اللَّه بعذابكم ان شكرتم . والشكر من المقامات العالية وهو أعلى من الصبر والخوف والزهد وجميع المقامات المذكورة لأنها ليست مقصودة في أنفسها وانما يراد لغيرها ، مثل انّ الصبر يراد منه قمع الهوى والخوف سوط يسوق الخائف إلى المقامات المحمودة والزهد هرب من العلائق الشاغلة عن اللَّه لكن الشكر مقصود لنفسه ولذلك لا ينقطع في الجنة . قال اللَّه تعالى : وآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّه رَبِّ الْعالَمِينَ . ولا يتحقّق الشكر الَّا مع العلم بالنعمة والمنعم ، فليعلم الشاكر انّ النعمة من اللَّه والوسائط كلَّهم مسخرون مقهورون . ومتى اعتقدت انّ لغير اللَّه دخلا في النعمة الواصلة إليك ، لم يصحّ حمدك وشكرك ، بل ذلك اشراك في النعمة والمنعم ومعلوم بالضرورة ان الخازن والوكيل ، مضطرّان إلى العطاء بعد الأمر فهما مسخّران ، لا دخل لهما بأنفسهما في النعمة وحكمهما حكم القلم والكاغذ والحبر في التوقيع وانّ قلوب الخلق خزائن اللَّه ومفاتيحها بيد اللَّه وفتحها بان يسلَّط عليها دواعي جازمة حتى يعتقد انّ خيرها في البذل مثلا فعند ذلك لا يستطيع ترك البذل ومن لا يعلم انّ منفعته في انفاعك ، فلا يعطيك شيئا فإذا هو ليس منعما عليك ، لأنّه يسعى لنفسه ، انّما المنعم من سخّره بتسليط هذه الدواعي عليه ولا بد للشاكر ان يستعمل نعمه تعالى في محابّه لا في معاصيه ، مثل ان يستعمل عينه في مطالعة كتاب اللَّه وشواهد قدرته وفي مطالعة السماوات والأرض ويستعمل اذنه في سماع الذكر وما ينفعه في الآخرة ويعرض عن الإصغاء إلى الهجر والفضول وهكذا فحينئذ من شرح اللَّه صدره تمكن من الشكر فهو على نور من ربّه ، فيرى من كلشيء حكمته ومحبوب اللَّه فيه ومن لم ينكشف له ذلك ، فعليه باتباع السنة وحدود الشرع فليعلم انّه مثلا إذا نظر إلى محرم فقد كفر نعمة العين ونعمة الشمس وكفر بكلّ نعمة لا يتم النظر الَّا بها ، فان الأبصار انّما يتمّ ويتحقق بالعين ونور الشمس انّما يتمّ بالسموات فهو قد كفر أنعم اللَّه في السماوات والأرض . وقس على هذا كل معصية ، فانّها انّما يمكن بأسباب يستدعى وجود جميعها خلق السماوات والأرض . وهاك مثالا آخر وهو : انّ اللَّه سبحانه