ولكن هنا الإشكالٌ آخر : فما أدراهم أنَّ الكلام سوف يفسد إذا لم توضع قواعد ؟ فإنَّ كلامهم ( أي كلام العرب ) سيكون فاسداً إذا قيسَ بكلام من سبقهم بألفي عامٍ لأَنَّه من المؤكد لا يجري على قواعد أولئك ! .
وفوق ذلك فإنَّ التجربة أثبتت فشل القواعد في منع تغيير القواعد ! فاللغة العامية مخالفةٌ الآن لفصيح اللغة ، ولها قواعدُ لو شاء المرء أنَّ يضعها في صيغٍ خاصّةٍ فإنها ستكون مخالفةً لقواعدُ الفُصحى . إذن . . فاللغة وقواعدها تتغيّر رغم أنف الجميع ! .
والحقُّ أنَّه لا فائدةَ من وضع أيَّة قواعدٍ في أيَّة لغةٍ إلاَّ في حالةٍ واحدةٍ هي توفّر ( الكلام الصحيح ) قبل القواعد . وهو الكلام المقطوع بصحّته من غير قواعد . فمثل هذا الكلام يحملُ قواعدَه في ذاته وداخل تراكيبه ، وبذلك ينفع في الحصول على ( قواعد ) يضبط بها بقية الكلام ليقع صحيحاً ، ويشكّل بدوره عاملاً من عوامل تصحيح الكلام الآخر وتطوّره . فإنَّ الكلام الصحيح هو أهمّ علامةٍ مميّزةٍ للوعي الاجتماعي على الإطلاق ، بل هو العلامة الوحيدة التي لا تُخطئ في تقدير نسبة هذا الوعي والتطوّر والرقيّ لأيَّة جماعةٍ .
لكنَّنا نلاحظ أنَّ كثرة القواعد العربية وتشعِّبَها أدَّى إلى حدوث انفصالٍ بين الأمة ولغتها الفصحى ، ولم يؤدِّ إلى فهم القرآن ليتمسّك به الناس ، بل أدَّى هذا التشعّب إلى العكس من ذلك . . أدَّى إلى حدوث هوّةٍ سحيقةٍ بينهم وبينه ، حتى أصبح فهم القرآن وتفسيره من أعوص الأشياء عند المختصّين بهذه القواعد فضلاً عن الدارسين فضلاً عن العامة .
ما كانت فائدة تلك القواعد إذن ؟
الحقٌّ . . لا شيء سوى أنْ يختار المرءُ بين شيئين : أنْ يموت ولا يعلم شيئاً من القرآن ، أو أنْ يدرس القواعد ويموت قبل أنْ يدرس القرآن ! .
إنَّ الاشكالات المّارة أعلاه لا حلَّ لها إلاَّ عند الإجابة على السؤال التالي :
( ما هو الكلام المقطوع بصحّته والذي يحملُ قواعدَه في ذاته ؟ ) وإذا كان الجواب هو ( كلام الله ) فإنَّنا أمام أمرين يجبْ أنْ يُنفَّذا فوراً :
الأول : إرساء قواعد من القرآن .