وهذا يعني أنَّ الاستعمال القرآني ( وإن كان واحداً وبنفس الطريقة ) ، فإنَّهم لا بدَّ أن يضعوا كلّ استعمالٍ في الباب الذي يحسبون أنَّه سيمرّ منه من غير إشكالٍ .
لكنّ المنهج يشكل عليهم الآن ويتساءل : لماذا هناك مجازٌ وهنا إضمارٌ وحذفٌ بالرغم من وحدة الاستعمال وهو إعطاء القرية الجامدة غير العاقلة على زعمهم حيويةً وحركةً ، فهي هناك آمنةٌ مطمئنّةٌ ، وهنا أيضاً تُسأل ، وفي كلٍّ من الموضعين كانت العلّة في المجاز والإضمار واحدة حسب ما ذكروه لكلّ واحدةٍ في موضعها من مسوغٍ في أبواب البلاغة أو النحو ؟
أفتراهم تقاسموا القرآن فبعضُهُ يفسّرهُ مجازُ البلاغةِ وبعضُهُ يفسِّرُهُ حذفُ النحو ، وصار من ثمَّ كلّ ما لا يدركه مجازُ البلاغةِ يدركه إضمارُ وحذفُ النحو ؟
قد يكون لهم عذرٌ في هذه المسألة بالذات لأَنَّه يصعب التفريق بين ( القرية ) وبين ( أهل القرية ) في الاستعمال القرآني الشديد الإحكام والذي لا يمكن كشفه إلاَّ بهذا المنهج . ولكن اللوم يبقى قائماً لأنَّهم ( نحويين وبلاغيين ) لم يوضّحوا لنا لماذا استعمل القرآن في مواضع أخرى المركب ( أهل القرية ) ولم يستعمل لفظ ( القرية ) بمفرده ؟ ! .
إنَّ الأمر الذي يكشفه المنهج يطابق قاعدةً وضعها آنفاً وهي إنكاره وجود إضمارٍ أو مجازٍ أو حذفٍ في التركيب القرآني في أي موضعٍ كان .
فالقرية هي في القرآن ( تجمّعٌ سكانيٌّ ) وليست هي ( الدور والأبنية ) كما زعموا . أمَّا ( أهل القرية ) فهم الأفراد الذين يؤسّسون النظام الاجتماعي للقرية .
وهذا يعني أنَّ القريةَ كتجمّعٍ سكّانيٍّ يمكن أنْ تهتدي أو تكفر أو تؤمن أو تعذَّب أو تُسأل ، لأنَّها كيانٌ اجتماعي له عقلٌ جماعيٌّ ونظامٌ صالحٌ أو فاسدٌ . فالقرية في القرآن لفظٌ يطلق على المدن الكبيرة المستقلة استقلالاً سياسياً ، مثل مكّة ومَدين وإنطاكية ، والتي يمكن أنَّ يُطلق عليها اسم ( المملكة ) أو ( الكيان ) في استعمالاتنا المعاصرة .
وهنا يتّضحُ الإعجاز القرآني المنقطع النظير والإحكام الصارم لأواصره اللفظية عند معرفة متى استعمل لفظ ( القرية ) ومتى استعمل المركّب ( أهل القرية ) .
هذا الكيان الذي هو القرية فيه كثيرٌ من المسافرين والمقيمين مؤقتاً وعابري