وقد بيّنا أنّ الاضلال والهداية يعبر بهما عن العذاب والثواب ، فعلى هذا يكون تقدير الآية : يضل أي يعذب بتكذيب القرآن والأمثال كثيراً ، ويهدي أي يثيب بالاقرار به كثيراً ، والدليل على ما قلنا قوله : * ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاّ الْفَاسِقِينَ ) * فلا يخلو أن يكون أراد ما قلناه من العقوبة على التكذيب ، أو أراد به الحيرة والتشكيك ، وقد ذكرنا أنّه لا يفعل الحيرة المتقدمة التي بها صاروا ضلالاً فسّاقاً ، لم يفعلها الله إلاّ بحيرة قبلها ، وهذا يوجب ما لا نهاية له من حيرة قبل حيرة ، لا إلى أول ، أو اثبات إضلال لا إضلال قبله ، فإن كان الله قد فعل هذا الضلال الّذي لم يقع قبله ضلال فقد أضل من لم يكن فاسقاً ، وهذا خلاف قوله : * ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاّ الْفَاسِقِينَ ) * فثبت أنّه أراد أنّه لا يعاقب إلاّ الفاسقين ، كما قال : * ( وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) * [1] .
وحكى الفراء وجهاً آخراً مليحاً ، قال : قوله * ( مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ) * حكاية عمّن قال ذلك ، كأنّهم قالوا : ماذا أراد بهذا مثلاً يضل به كثيراً ، أي يضل به قوم ويهدي به قوم ، ثم قال الله : * ( وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاّ الْفَاسِقِينَ ) * فبيّن ( عز وجل ) الاضلال ، وأنّه لا يضلّ إلاّ ضالاً فاسقاً ، واقتصر على الاخبار عنهم وبيان ما بين الاضلال دون ما أراد بالمثل ، وهذا وجه حسن تزول معه الشبهة .
وأصل الفسق في اللغة الخروج عن الشيء ، يقال منه : فسقت الرطبة إذا أخرجت من قشرها ، ومن ذلك سمّيت الفارة فويسقة ، لخروجها من جحرها ، ولذلك سمّي المنافق والكافر فاسقين لخروجهما عن طاعة الله ، ولذلك قال الله تعالى في صفة إبليس : * ( إِلاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنْ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) * [2] يعني خرج من طاعته واتباع أمره .