وليس لأحد أن يقول : هذا المثل لا يليق بما تقدم ، من حيث لم يتقدّم للبعوضة ذكر ، وقد جرى ذكر الذباب والعنكبوت في موضع آخر ، في تشبيه آلهتهم بها وأن يكون المراد بذلك أولى ، وذلك أنّ قوله : * ( إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ) * إنّما هو خبر منه تعالى أنّه لا يستحيي تعالى أن يضرب مثلاً في الحقّ من الأمثال صغيرها وكبيرها ، لأنّ صغير الأشياء عنده وكبيرها بمنزلة واحدة من حيث لا يتسهل الصغير ، ولا يصعب الكبير ، وإنّ في الصغير من الإحكام والإتقان ما في الكبير ، فلمّا تساوى الكل في قدرته ، جاز أن يضرب المثل بما شاء من ذلك ، فيقر بذلك المؤمنون ، ويسلمون - وإن ضل به الفاسقون بسوء اختيارهم - وهذا المعنى مروي عن مجاهد .
وروي عن الصادق جعفر بن محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أنّه قال : إنّما ضرب الله بالبعوضة ، لأنّ البعوضة على صغر حجمها خلق فيها جميع ما في الفيل على كبره وزيادة عضوين آخرين ، فأراد الله أن ينبه بذلك المؤمنين على لطف خلقه وعجيب عظم صنعه .
والإضلال على وجوه كثيرة :
منها : ما نسبه الله تعالى إلى الشيطان ، وهو الصد عن الخير والرشد والدعاء إلى الفساد والضلال ، وتزيين ذلك ، والحث عليه ، وهذا ينزه الله تعالى عنه .
ومنها : التشديد في الامتحان والاختبار اللذين يكون عندهما الضلال ويعقبهما ، ونظير ذلك في اللغة أن يسأل الرجل غيره شيئاً نفيساً خطيراً يثقل على طباعه بذله فإذا بخل به ، قيل له نشهد لقد بخل به فلان ، وليس يريدون بذلك عيب السائل ، وانّما يريدون عيب الباخل المسؤول ، لكن لمّا كان بخل المسؤول ظهر عند مسألة السائل جاز أن يقال في اللغة : انّه بخلك .