أخذ الدية . فقال جماعة منهم مالك والشافعي : إنه كمن قتل ابتداء ، إن شاء الولي قتله وإن شاء عفا عنه . وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم ، عذابه أن يقتل ألبتة ، ولا يمكن الحاكم الولي من العفو . وقال الحسن : عذابه أن يرد الدية فقط ، ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة . وقال عمر بن عبد العزيز : أمره إلى الإمام يصنع فيه ما رأى .
قوله ( ولكم في القصاص حياة ) أي لكم في هذا الحكم الذي شرعه الله لكم حياة ، لأن الرجل إذا علم أنه يقتل قصاصا إذا قتل آخر كف عن القتل وانزجر عن التسرع إليه والوقوع فيه ، فيكون ذلك بمنزلة الحياة للنفوس الإنسانية . وهذا نوع من البلاغة بليغ ، وجنس من الفصاحة رفيع ، فإنه جعل القصاص الذي هو موت حياة باعتبار ما يؤول إليه من ارتداع الناس عن قتل بعضهم بعضا ، إبقاء على أنفسهم واستدامة لحياتهم ، وجعل هذا الخطاب موجها إلى أولي الألباب . لأنهم هم الذين ينظرون في العواقب ويتحامون ما فيه الضرر الآجل ، وأما من كان مصابا بالحمق والطيش والخفة فإنه لا ينظر عند سورة عضبه وغليان مراجل طيشه إلى عاقبة ولا يفكر في أمر مستقبل ، كما قال بعض فتاكهم :
سأغسل عني العار بالسيف جالبا * علي قضاء الله مما كان جالبا ثم علل سبحانه هذا الحكم الذي شرعه لعباده بقوله ( لعلكم تتقون ) أي تتحامون القتل بالمحافظة على القصاص ، فيكون ذلك سببا للتقوى . وقرأ أبو الجوزاء ( ولكم في القصص حياة ) قيل أراد بالقصص القرآن : أي لكم في كتاب الله الذي شرع فيه القصاص حياة : أي نجاة ، وقيل أراد حياة القلوب ، وقيل هو مصدر بمعنى القصاص ، والكل ضعيف ، والقراءة به منكرة .
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : إن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل ، فكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء ، ولم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا ، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال ، فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم ، وبالمرأة منا الرجل منهم ، فنزلت هذه الآية . وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الشعبي نحوه . وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة ، ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة ، فأنزل الله - النفس بالنفس - فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم في العمد رجالهم ونساءهم في النفس وفيما دون النفس ، وجعل العبيد مستوين في العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم ونساءهم . وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن أبي مالك قال : كان بين حيين من الأنصار قتال كان لأحدهما على الآخر الطول فكأنهم طلبوا الفضل ، فجاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليصلح بينهم ، فنزلت هذه الآية ( الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ) قال ابن عباس : فنسختها - النفس بالنفس - وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس ( فمن عفي له ) قال : هو العمد رضي أهله بالعفو . ( فاتباع بالمعروف ) أمر به الطالب ( وأداء إليه بإحسان ) من القابل ، قال : يؤدي المطلوب بإحسان . ( ذلك تخفيف من ربكم ورحمة ) مما كان على بني إسرائيل . وأخرج نحوه ابن أبي حاتم عنه من وجه آخر . وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال : كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن الدية فيهم ، فقال الله لهذه الأمة ( كتب عليكم القصاص في القتلى ) إلى قوله ( فمن عفي له من أخيه شئ ) فالعفو أن تقبل الدية في العمد ( فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان ذلك