نام کتاب : مستدركات أعيان الشيعة نویسنده : حسن الأمين جلد : 1 صفحه : 251
والرهبة ، وعلى رأسها جلادون من هنا وسفاكون من هنا ، والعيون مبثوثة عليها في كل وجه تحبس انفاسها وتسجل خفقات قلوبها ، وأسباب الوشاية والنميمة ترصد الطريق على كل رائح وغاد ومتحدث . وهذه البصرة يحكمها ، من قبل يزيد وال عرفه أهل هذا المصر بأنه شارك في مصرع الحسين بن علي يوم الطف بكربلاء ، وعرفوه عليهم واليا مستبدا طاغيا ظالما يقيم الحكم فيهم بالارهاب والسعاية والوشاية وبالسجن والقتل والتعذيب ، ذلك هو عبيد الله بن زياد . كان ذلك ولآل زياد في الأمصار كلها ، صيت يثير في نفوس الجماهير صورا شتى يقترن بكل واحدة منها معنى أقل شانه انه يبعث السخر والابتسام ، أو يبعث الحقد والسخط ، أو يبعث الذعر والهلع . وكان آل زياد يعرفون هذا كله في الجماهير ، فيخشون نقمتها أو انفجار نقمتها ، إذ يكبتونها بالارهاب من كل نوع وكل أسلوب . وكان أخشى ما يخشونه ، ألسنة الشعراء ، ولا سيما الهجاءين منهم وذوي الخلاعة والمجانة ، فان مثل هؤلاء يكشفون للناس من العيوب والمساوئ ما كان آل زياد يتحامون ان ينكشف ، أو أن تتحدث به الجماهير في حين يعلمون أن عند هذه الجماهير أنباء يتناقلونها عن آل زياد ، سواء أصدقت هذه الأنباء أم كانت من الأكاذيب والأراجيف . . . وهنا يبرز في البصرة شاعر يعرف فيه عبيد الله بن زياد قسوة الهجاء ، وتعرف فيه جماهير البصريين حقده وسخطه على آل زياد لما شاركوا فيه من هاتيكم الأفاعيل في عهد يزيد ، نعني بهذا الشاعر يزيد بن ربيعة بن مفرغ . وقد جاء لقب « مفرغ » هذا ، من أن جد الشاعر راهن على ظرف لبن ان يشربه كله ، فشربه حتى فرغ ، فلقب « مفرغا » . وشاعرنا يزيد بن مفرغ يماني ينتمي إلى حمير ، ويحالف قريش ، ويبدو أنه كان علوي الهوى ، وأن مصرع الحسين بن علي كان له أثر في أسباب حقده على آل زياد ، وسنرى من شعره ما يدل على هذا . ويبدو كذلك أن شاعرنا كان يتربص بال زياد ، حتى تحين له الفرصة ان يكشف عوراتهم ، وأن يعبر عن سخط الجماهير عليهم بهذا الهجاء الفاضح الذي عرف به . وقد واتته الفرصة المرتقبة ، حين ولي عباد بن زياد ، أخو عبيد الله بن زياد ، قيادة الجيش في خراسان ، وولي سعيد بن عثمان عهد الولاية من قبل يزيد بن معاوية على خراسان نفسها ، فطلب سعيد إلى شاعرنا هذا يزيد بن مفرغ ، أن يصحبه ، إلى موضع ولايته ، فأبى ان يصحبه وآثر ان يصحب عباد بن زياد ، وإنك لتعجب أول الأمر كيف يؤثر الشاعر أن يصحب عبادا وهو لم يطلب إليه ذلك ، على حين يأبى ان يصحب سعيدا ، وسعيد هو الذي يطلب إلى الشاعر أن يصحبه ؟ . . فهل تراه يكره صحبة سعيد بن عثمان ، ويهوى صحبة عباد بن زياد ؟ . هذا ما نشك فيه كل الشك ، فان الظاهر من حال سعيد مع الشاعر أنه يحبه ويخلص له الحب ، ثم ان الظاهر مما سياتي من حال الشاعر مع عباد بن زياد أنه ليس محبا لعباد هذا ، وما كانت رغبته في صحبته إلى خراسان لأمر يعجبه فيه ، ولكن لأمر آخر يبيته في نفسه ، وسنعرف ، بعد ، هذا الأمر . ويدلنا على ما بين يزيد ابن مفرغ وسعيد بن عثمان من صلة الود والصداقة ان سعيدا حين أعياه ان يقنع ابن مفرغ بصحبته ، قال له : - « اما إذ أبيت أن تصحبني وآثرت عبادا ، فاحفظ ما أوصيك به : ان عبادا رجل لئيم ، فإياك والدلالة [1] عليه ، وان دعاك إليها من نفسه ، فإنها خدعة منه لك عن نفسك ، وأقلل زيارته فإنه طرف [2] ملول ، ولا تفاخره وإن فاخرك ، فإنه لا يحتمل لك ما كنت احتمله » . ثم دعا سعيد بن عثمان بمال - كما يروى في الأغاني - فدفعه إلى ابن مفرغ ، وقال : - « استعن بهذا المال على سفرك ، فان طاب لك مكانك من عباد ، وإلا فمكانك عندي ممهد » . وظاهر من هذا كله ، ان سعيد بن عثمان كان خالص النصيحة والود لشاعرنا بن مفرغ ، وظاهر كذلك أن سعيدا ليس بالبخيل الشحيح حتى نقول ان لعل بن مفرغ إنما رغب عن صحبته ، طمعا بان ينال من عباد بن زياد ما لا يناله من سعيد بن عثمان من عطاء ، كلاهما راحل إلى خراسان وكلاهما مقبل فيها على منصب رفيع مضافا إلى تحذير سعيد له من لؤم عباد وسرعة ملالته وتغيره على صاحبه ، فما ذا الذي يدعو الشاعر إلى إيثار عباد على سعيد إذن ؟ . نجد مفتاح الجواب عند عبيد الله بن زياد ، أخي عباد . فان عبيد الله هذا ، ما إن علم أن [ ] ابن مفرغ سيصحب أخاه عبادا إلى خراسان ، حتى أحس الشر في قرارة نفسه ، وشق عليه ذلك ، ولم يستطع ان يمنع أخاه من صحبة هذا الشاعر ، وأسر الأمر في صدره حتى ساعة السفر ، وخرج أخوه ومعه الناس يشيعونه إلى خارج البصرة ، وجعلوا يودعونه ، فلما أراد عبيد الله أن يودع أخاه ، دعا إليه الشاعر ابن مفرغ فقال له : - انك سالت عبادا أن تصحبه ، وأجابك إلى ذلك ، وقد شق علي هذا . فقال الشاعر : ولم ذاك ، أصلحك الله ؟ . . فقال عبيد الله : « لأن الشاعر لا يقنعه من الناس ما يقنع بعضهم من بعض ، فهو - أي الشاعر - يظن ، فيجعل الظن يقينا ، ولا يعذر في موضع العذر ، وأن عبادا ليقدم على أرض حرب ، فيشتغل بحروبه وخراجه عنك ، فلا تعذره أنت ، وتكسبنا شرا وعارا » ! فقال الشاعر : لست كما ظن الأمير ، وأن لمعروفه عندي شكرا ، وان عندي - ان أغفل امري - عذرا ممهدا . قال عبيد الله : « لا » ، ولكن تضمن لي إن أبطا عنك ما تحبه ان لا تعجل عليه حتى تكتب إلي . قال الشاعر : نعم . فقال عبيد الله : امض - إذن - على الطائر الميمون . فهل ترى إلى قول عبيد الله : فتكسبنا شرا وعارا ؟ وهل ترى إلى عبيد الله كيف يبلغ به الذعر والهلع من صحبة هذا الشاعر لأخيه عباد ؟ . وهل تجد في ذلك كله سوى ذعر الطغاة المستبدين يحسون هول النقمة في نفوس الجماهير ، ويخشون لسان الشاعر ان يلقي « الفتيل » في مواطن النقمة من هذه النفوس ، فتشتعل وتنفجر ؟ . ألا ترى في هذا القلق يبديه عبيد الله من صحبة الشاعر لأخيه ، وفي هذا الاحتياط الشديد للأمر ، حتى يأخذ من الشاعر الضمانة بان لا يعجل على أخيه - إن ابطا عنه - قبل أن يكتب الشاعر إليه ، أي إلى عبيد الله في البصرة ليدبر هو الأمر - ألا ترى في هذا القلق وهذا الاحتياط الشديد ، ان عبيد الله كان يعرف كيف تنظر الجماهير ، في الأمصار إلى آل زياد ، وكي تنطوي صدورها على أسرار من أمورهم تنتظر لسان شاعر أن يثيرها في غضبة من غضباته وفي هجوة
[1] اي إظهار الدالة ورفع الكلفة . [2] الطرف ( بفتح الطاء وكسر الراء ) : من لا يثبت على رأي .
251
نام کتاب : مستدركات أعيان الشيعة نویسنده : حسن الأمين جلد : 1 صفحه : 251