والواحدية المذكورتين كانت بحيث لا يدركها العقول والأفكار ، اما لان ادراك هذه الأحدية المطلقة الجامعة ليس في طور العقل المعقول بتعينه المجعول لما مر في أول الكتاب [1] ، واما لعدم قدرته على إحاطة ما لا يتناهى من جهة الواحدية ، ولا تحويه الجهات ولا الأقطار لعدم تعينه المشهودي ، ولا يحيط بمشاهدته البصائر والابصار ، وكل ذلك لأنه من هذه الحيثية المطلقة منزه عن القيود الصورية والمعنوية ، مقدس عن قبول كل تقدير متعلق بكمية مدة أو عدة أو مسافة زيادة ونقصانا أو كيفية شدة وضعا ، متعال عن الاحاطات الحدسية والفهمية والمنطقية والعلمية ، لان كلا منها شأن العقل العاقل والتوجه المتناهى الزائل ، فكيف يحاط به الأزلي الأبدي الكامل ؟ 531 - 3 ولما علم أن حجابه امتياز حقيقته ، فهو محتجب بكمال حقيقته ونور عزته عن جميع بريته ، لوجوب نقصان كل بامكان حقيقته وظلمة عدميته ، حتى أن بطونه بالبساطة لغاية ظهوره احتجاب ، وظهوره عين بطونه بستر تركيب وحجاب ، هذا هو العجب العجاب ، وهذا حكم شامل للكامل منهم والناقص والمقبل إليه في زعمه والناكص ، إذ لا محيص لمخلوق عن جهة الامكان التي هي محتد النقصان والتغير والحدثان . 532 - 3 فان قلت : فمع امتناع هذه الادراكات كيف صح للعقول ما سلم لها [2] من التنزيهات ؟ 533 - 3 قلنا : جميع تنزيهاتها من حيث أفكارها سلبية لا يفيد معرفة كنه حقيقته ، مع أنها لو بولغ بأقصى ما في وسعها - دون ما يقتضيه جلاله ويستحقه قدسه وكماله - لتناهيها دونه واندراجها تحته ، وكل ما يقدر من غير المتناهى فنسبته إلى ما بقى نسبة المتناهى إلى اللا متناهي ، ولأنه من وراء الحجاب - بخلاف ما يدرك بالكشف لاولى الألباب - . 534 - 3 ثم نقول : منشأ تعلق علمه بالعالم من عين علمه بنفسه ، كما مر انه علم نفسه بنفسه وعلم الأشياء بعين علمه بنفسه ، وتحقيقه يستدعى تحقيق حقيقة العلم على
[1] - في الفصل الثالث من الفاتحة . [2] - أي التنزيهات المسلمة من العقول - ش