النحو الثالث : الحاجات المرتبطة بمعرفة ما ينبغي وما لا ينبغي فعله . والذي يدفع الإنسان للبحث في تلك الأنحاء الثلاثة من المعرفة ويجعله يشعر بضرورة ووجوب تحصيلها هو حبّه لذاته ، فإنّ الله عزّ وجلّ خلق الإنسان مفطوراً على حبّ ذاته وكمالاتها ، وهذا ما يجعله باحثاً وطالباً لكلّ ما يُلائم ذاته وينسجم مع سعادتها ، وهارباً عن كلّ ما ينافرها ويقف مانعاً أمام تكاملها . من هنا ينطلق الإنسان في البحث عن وجودات الأشياء بنحو كان التامّة ويميّز ما هو موجود عمّا هو معدوم ، ثمّ يواصل البحث عن خصائص وأحوال تلك الأشياء التي علم بوجودها ، فبعد أن علم بأنّ الماء موجود مثلاً ، يبحث عن خصائصه وأنّه رافع للعطش أم لا ، وهذا هو الذي عبّرنا عنه بالوجدان والفقدان المرتبط بكان الناقصة ، في قبال الوجود والعدم الذي يرتبط بكان التامّة . وبعد أن يتعرّف الشخص على وجودات الأشياء وخصائصها ، يُلاحظ مرّة أخرى ؛ فإن كان ذلك الشئ مع خصائصه ممّا يُلائم ذاته وينسجم مع كمالاتها يحكم حينئذٍ بوجوب طلب الشئ الملائم وأنّه ممّا ينبغي أن يُفعل ، وإن كان ممّا لا يُلائم الذات ويتنافى مع مسيرتها التكاملية فإنّه يحكم بوجوب تركه وأنّه ممّا لا ينبغي أن يفعل . والحاصل : إنّ حبّ الذات الذي هو أمرٌ فطريّ يتفرّع عنه ثلاثة أنحاء من العلوم ؛ النحو الأوّل : يرتبط بكان التامّة للأشياء ، والثاني : يرتبط بكان الناقصة ، والثالث : يرتبط بما ينبغي وما لا ينبغي . إذا اتّضح ذلك نقول : إنّ الحكمة النظرية هي تلك المعارف والعلوم المرتبطة بكان التامّة وكان الناقصة للأشياء ، والبحث في كان التامّة هو ما يُسمّى بالبحث في الأمور العامّة أو الإلهيّات بالمعنى الأعمّ ، وأمّا البحث عن