ولا يرتفعان في الواقع عن الواقع ، كذلك هو حال التصوّرات ، فالتصوّرات النظرية المحتاجة إلى التعريف والبيان بغيرها من المفاهيم السابقة عليها من حيث الوضوح المفهومي لدى الذهن لا بدّ أن تنتهي إلى تصوّر لا يوجد قبله تصوّر آخر سابق عليه في المفهوميّة والوضوح ، وإلاّ للزم إمّا الدور أو التسلسل الباطلين ، ومعنى لزوم ذلك أنّنا لا نقف على فهم أي تصوّر من التصوّرات ، وهو باطل بالوجدان ، فلا بدّ أن نصل إلى معانٍ صحيحة وواضحة ومركوزة في الذهن ومرتسمة في العقل ارتساماً أوّلياً فطريّاً [1] ، وتكون تلك التصوّرات الأوّلية سابقة على التصوّرات الأخرى في الجلاء والوضوح ودخيلة في تعريفها وفهمها وبيان حقيقتها . وأمثلة تلك التصوّرات البديهيّة هي المفاهيم الفلسفيّة ، التي يتشكّل منها موضوع الفلسفة وموضوعات مسائلها ، كالموجود والوجوب والإمكان والعلّة والمعلول ونظائرها ، فثبت بذلك بداهة مفهوم الموجود الذي هو موضوع الفلسفة ؛ إذ إنّنا نعلم بالوجدان والارتكاز بأنّه لا يوجد مفهوم أعرف من مفهوم الوجود كي يكون سابقاً عليه وتنتهي إليه سائر التصوّرات الأخرى . نعم ، ذكرنا في المقدّمة الثانية من مقدّمات هذا البحث أنّ ملاك وضابطة البديهي والنظري في المفاهيم التصوّرية مختلف عن ضابطة البديهي والنظري في القضايا التصديقيّة .
[1] نعم ، هناك بحث في أنّ هذه التصوّرات الأوّلية هل هي موجودة مع الإنسان من حين ولادته ، أم إنّه يصل إليها من خلال الحواسّ أيضاً ؟ وهذا بحث مرتبط بنظرية المعرفة ، والصحيح أنّ هذه التصوّرات أيضاً لها مناشئ حسّية كالتصديقات الأوّلية ، وكيفيّة ذلك موكولة إلى مباحث العاقل والمعقول في المجلّد الثالث من الأسفار ، وقد أشرنا إلى ذلك أيضاً في شرحنا لكتاب نهاية الحكمة .