السفر الرابع : من الخلق إلى الخلق بالحقّ عرفت ممّا تقدّم أنّ السفر الثاني يُمثّل الخزائن المعرفية التي يتزوّد منها العارف ، لأنه سفر في الحقّ بالحقّ ، وأمّا هذا السفر الذي نحن فيه فإنّه سير وسفر في الخلقّ بالحق ، فيكون السفر الرابع مقابلاً للسفر الثاني ، ولمّا كان السفر الثاني رحلة في الحقّ بالحقّ كانت ثمرته التزوّد والارتقاء ، وأما السفر الرابع فهو سفر في الخلق بالحقّ ، وثمرته الفيض والعطاء ، حيث ينطلق فيه العارف والسالك نحو أداء وظيفته الربّانية وسفارته الإلهية ، فيجذب النفوس إلى الطريق القويم ويأخذ بقلوب الخلق نحو بارئها وخالقها ، وكأنّه طبيب دوّار بطبّه ، كما وصف أمير المؤمنين « عليه السلام » النبيّ « صلى الله عليه وآله » ، قائلاً : « طبيب دوّار بطبّه قد أحكم مراهمه وأحمى مواسمه ، يضع ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عُمي وآذان صُمّ وألسنة بكم ، متتبّع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة » [1] . فما أروع وأدقّ وصفه ، حيث يُعبّر عن النبي بأنّه « دوّار بطبّه » لم يجلس في محلّ إقامته وطبابته ليراجعه الناس ، وإنّما هو يقصد المرضى بنفسه ويطرق الأبواب ويجوب الأزقّة لتطهير القلوب وتزكية النفوس ، فُيبدّل قسوتها رأفةً ورحمةً ، وجفاءها وصلاً وقرباً . إذن فوظيفة السالك والعارف في السفر الرابع هي مداواة الناس ، وذلك من خلال إيصال الشريعة المقوّمة لحياة الإنسان والمنظّمة لكلّ حركاته وسكناته في حياته العملية ومعتقداته العقلية والقلبية . والحاصل : إن العارف هنا قد يهبه الله تعالى مقام نبوّة التشريع الحقيقية ، فيكون نبيّاً بالمعنى الاصطلاحي ، وبذلك يفترق هذا السفر عن سابقه حيث
[1] نهج البلاغة ، نسخة المعجم المفهرس ، مصدر سابق : ص 47 ، الخطبة 108 .