كان للسالك في سفره الثالث حظّ من النبوّة دون نبوّة التشريع ، أي لا يكون صاحب شريعة ، بخلاف ما هو عليه الحال في السفر الرابع . ومن الواضح أنّ هذه النبوّة التشريعية في السفر الرابع ليست ثابتة لكلّ سالك وعارف ، وإنّما هي هبة إلهية وسفارة ربانية ، لم تُعط إلاّ لعدد مُعيّن ، وقد أُغلقت دائرتها بنبوّة الخاتم « صلى الله عليه وآله » ، كما صرّح « صلى الله عليه وآله » بذلك لأمير المؤمنين علي « عليه السلام » عندما خلّفه على المدينة في غزوة تبوك ، حيث قال له : « أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي من بعدي » [1] . وقد عرفت أنّ النبي الخاتم « صلى الله عليه وآله » كان قد أحرز أعلى المراتب في السفر الثاني ، فنال ما لم ينله غيره من المعارف ، وتحقّق بما لم يتحقّق به غيره من الحقائق ، فكان قطب الرحى والمصداق الأتمّ للاسم الأعظم ، وهو صاحب مقام الخاتمية ، والجامع بين الولايتين التشريعية والتكوينية ، فتكون نبوّته التشريعية هي الأتمّ والأكمل ؛ لأنّها فرع ما تحصّل وتوفّر عليه من المعارف في سفره الثاني ، ومن هنا لا يمكن افتراض وجود شريعة أُخرى أتمّ وأكمل من الشريعة المحمّدية ، فهي الأكمل والأفضل والأتمّ والخاتمة لبقية الشرائع السماوية . ثم إنّ رسالة النبيّ الأكرم « صلى الله عليه وآله » وولايته الأتمّ تمثّلان دفّتي الدين ظاهره وباطنه ، فظاهر الدين القيّم هو هذه الرسالة والشريعة التي تتضمّن الأحكام العبادية والمعاملاتية والأخلاقية ، وأمّا باطنه فهي الولاية المتمثّلة بمجموع المعارف الإلهية التي تَحقّق بها الرسول الأكرم « صلى الله عليه وآله » في السفر الثاني من أسفاره الأربعة ، ومن ذلك يتضح أنّ الحاكم في ظاهر عالم الملك والمادّة والطبيعة
[1] كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال ، علاء الدين المتقي الهندي ، مؤسسة الرسالة ، 1399 ه بيروت : ح 32881 .