السفر الثاني : من الحقّ إلى الحقّ بالحقّ بعد أن فني السالك في مقام الذات وتخلّص من أناه وصار وجوداً حقّانياً ولم يعد يرى في الوجود سوى الله تعالى ، فاحتجبت الكثرة عنه بالوحدة ، وصار وجوده لله تعالى ، ولم تبق هنالك شِركة للشيطان فيه ، فخرج عن دائرة * ( وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ ) * [1] . وأصبح قلبه حرم الله تعالى ، فصار الله مأواه وملاذه ومحطّ رحاله ، إذا تحقّق ذلك كلّه للسالك فإنّه يكون قد شرع في سفره الثاني ، وهو السير في الحقّ بالحقّ أو من الحقّ إلى الحقّ بالحقّ ، والمراد من قولهم « بالحقّ » هو كون السالك قد صار وجوده حقّانيّاً لا شركة للشيطان فيه ، وفي هذا السفر الثاني وما بعده من الأسفار سوف تبقى هذه الصفة ملتصقة به ، ولعلّها تتعاظم بحسب مراتبه الكمالية . فالسفر الثاني هو سفر السالك في الوحدة الحقّة والعلّة التامّة والمؤثّر الحقيقي ، وحيث إنّ الحقّ تعالى له ذات وأسماء وصفات وأفعال ، فإنَّ السالك يبدأ بالتعرّف والتحقّق في ذلك ، فيُبصر أفعال الله تعالى بمعانيها الدقيقة وينتهي إلى فناء أفعاله الشخصيّة بأفعال الله تعالى ، ويبصر أيضاً صفات الله عزّ وجلّ فتفنى صفاته الشخصيّة بصفات الله تعالى ، ثُمّ تبقى ذاته وهي مجرّدة عن أفعاله وصفاته فيبصرها متعلّقه بذات الله جلّ وعلا فتفنى ذاته في ذاته . وقد قلنا سابقاً إنَّ معنى الفناء هو أن لا يلتفت السالك إلى كلّ ما عدا الله تعالى ، ومن ذلك أفعاله وصفاته وذاته ، ولكنّ الفناء هنا سوف يستبطن معنىً أعمق وأجلّ ، وإن كان لا يغادر ذلك المعنى الدقيق إلاّ أنّه أدقّ وألطف ، ففناؤه هنا يعني أن يكون فعله فعل الله وصفاته صفات الله تعالى . ولا يكون هذا إلاّ بعد أن يكون العبد في سيره اللا متناهي مظهراً لتلك