الله كثيراً مما ضيّعت شطراً من عمري في تتبّع آراء المتفلسفة والمجادلين من أهل الكلام وتدقيقاتهم وتعلّم جربزتهم في القول وتفنّنهم في البحث » [1] . إلاّ أنّ هذا الكلام غير دقيق ، لأنّ هذا النصّ لا يكشف عن ذمّ العلوم العقلية والآراء الفلسفية بنحو الإطلاق ، وإنّما يقتصر على ذمّ « آراء المتفلسفة والمجادلين من أهل الكلام » فهو قد بيّن أنّ الذي استغفر منه هو سنخ خاصّ من العلوم البحثية ؛ بقرينة ما ذكره بعده بقليل ، من : « أنّ قياسهم عقيم وصراطهم غير مستقيم » فليس من الصحيح نسبة هذه المقولة إليه ، وإلاّ فإنّه كَتبَ الأسفار الأربعة في المرحلة الأخيرة من عمره الشريف . المرحلة الثانية : دور العزلة والانقطاع إلى العبادة بعد نهاية المرحلة الأولى من حياته التي صار فيها أستاذاً كاملاً في العلوم الرسمية والكسبية ، أدرك أنّ هذه لا تشفي الغليل ، وأنّ هناك مرحلة أُخرى لا بدّ من طيّها والوصول إليها ، فلهذا غادر تلك الديار وتوجّه إلى مدينة قم المقدّسة واستقرّ في إحدى قراها وهي قرية « كهك » كما قيل [2] ، واستمرّت هذه العزلة خمسة عشر عاماً ، اشتغل خلالها بالمجاهدات والرياضات المعنوية ، حتى استطاع أن يفتح نافذة إلى عالم القدس والملكوت ، فشاهد بعين البصيرة ما كان قد حصل عليه عن طريق الاستدلال العقلي في المرحلة الأولى . يقول صدر المتألّهين عن هذا التحوّل في حياته : « وإنّي كنت سالفاً كثير الاشتغال بالبحث والتكرار ، وشديد المراجعة إلى مطالعة كتب الحكماء النظّار حتى ظننت أنّي على شئ ، فلما انفتحت بصيرتي ونظرت إلى حالي ، رأيت نفسي
[1] الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ، مصدر سابق : ج 1 ص 11 . [2] سفينة البحار ومدينة الحكم والآثار ، المحدّث المتبحّر الجامع المحقّق الشيخ عباس القمّي ( طاب ثراه ) دار المرتضى ، بيروت : ج 2 ص 117 ، الهامش .