وأما الصورة الثالثة ، فمقتضى القاعدة فيها جواز أخذ المال على القضاء والافتاء ، فإن عمل المسلم محترم فلا يذهب هدرا ، وأما الآية المتقدمة فلا تشمل المقام لاختصاصها بالحكم بالباطل كما عرفت . نعم الحرمة فيها هي مقتضى اطلاق الروايات المتقدمة الدالة على ذلك ، وهذا المعنى هو الذي تقتضيه مناسبة الحكم والموضوع ، فإن القضاء من المناصب الإلهية التي جعلها الله للرسول فلا ينبغي لمن يتفضل عليه الله بهذا المنصب الرفيع أن يأخذ عليه الأجرة . ومع الاغضاء عن جميع ما ذكرناه ، ففي الروايات الدالة على حرمة أخذ الأجرة على القضاء غنى وكفاية ، وسنتعرض لهذه الروايات في البحث عن حكم أخذ الأجرة على القضاء ، إذ الظاهر من الأجرة فيها الجعل المأخوذ للقضاء دون الأجر المقرر من قبل السلطان ، ولو كان جائزا فإنه لا شبهة في جواز أخذه إذا كان الدخول فيه بوجه محلل ، كعلي بن يقطين والنجاشي وأمثالهما . لا يقال : إن الرشوة في اللغة ما يؤخذ لابطال حق أو احقاق باطل ، فلا تصدق على ما يؤخذ للقضاء بما يحق . فإنه يقال : إن مفهوم الرشوة أعم من ذلك كما عرفت ، فلا وجه للحصر وتقييد المطلقات ، على أن الأمور التي يكون وضعها على المجانية فإن أخذ الأجرة عليها يعد رشوة في نظر العرف ، ومن هذا القبيل القضاوة والافتاء . نعم لو فرضنا قصور الأدلة المتقدمة عن اثبات الحرمة كان مقتضى أصالة الحل هو الإباحة ، بل وهو مقتضى عمومات صحة المعاملات ، كأوفوا بالعقود ، وأحل الله البيع ، وتجارة عن تراض ، وغيرها .