جريان استصحاب الإباحة أولا ، ثم بنى على حكومة استصحاب السلطنة عليه على تقدير جريانه ( 1 ) . ولعل وجه المنع : أن المفروض الترديد في أن الإباحة الثابتة في المقام بالاجماع ، هل تكون محدودة إلى زمان الرجوع ، أو ممتدة حتى بعد الرجوع ؟ فالإباحة المجعولة مرددة بين فردين قصير العمر وطويل العمر ، فلا يمكن الاستصحاب في شئ من الخصوصيتين ، فإنه في الأول متيقن الزوال وفي الثاني مشكوك الحدوث من أول الأمر ، فلا بد من القول بالاستصحاب في كلي الإباحة الجامع بينهما ، والجامع بين الإباحتين لا حكم شرعي ، ولا موضوع ذو حكم شرعي ، بل الحكم الشرعي هو إحدى الخصوصيتين . وبعين هذا البيان نمنع جريان استصحاب الكلي في الأحكام ، فإن الكلي أمر انتزاعي من الحكم الشرعي ، لا أنه حكم شرعي بنفسه . ولعل وجه عدم تسليم الشيخ ( رحمه الله ) هذا الاستصحاب من جهة الشك في المقتضي ، فإن أمر المجعول الشرعي مردد بين ما هو قابل للبقاء وبين ما ليس بقابل له ( 2 ) .
1 - المكاسب : 91 / سطر 1 . 2 - لا يخفى أن الإباحة ليست إلا نوعا واحدا ، واللزوم والجواز ليسا منوعين لها كالملك ، بل قد تزول بالرجوع بحكم الشارع وقد لا تزول ، وهذان حكمان لها بحسب الموارد في اعتبار الشارع لا منوعان لها ، فالاستصحاب جار في شخص الإباحة لا كليها . هذا ، ولا يمكن أن يكون هذا وجه عدم تسليم الشيخ ( رحمه الله ) ، فإنه ذكر في استصحاب بقاء الملك في أدلة اللزوم هذا الذي ذكرناه ، مضافا إلى أنه ذكر في الرسائل في الشك في الأقل والأكثر الارتباطيين : أنه لا يمكن إثبات وجوب الأكثر باستصحاب بقاء الوجوب بعد الاتيان بالأقل ، فإنه من المثبت ، ولا يزيد بقاء الوجوب المردد بين الأقل والأكثر تعبدا على العلم بالوجوب المردد بينهما وجدانا ، والحال أنا أجرينا البراءة مع العلم الوجداني ، فكيف في مورد التعبد ؟ ! انتهى محصلا ( فرائد الأصول 2 : 463 - 464 ) . ويظهر من ذلك : أنه لا إشكال في نظره ( قدس سره ) أن المستصحب حكم شرعي ، غاية الأمر يلزم منه ما ذكر ، مع أنه يمكن أن يقال : إن المستصحب ليس هو الجامع بين الحكمين ، ولا واحد من الخصوصيتين ، بل يقال : إنا نعلم بحدوث مصداق من الحكم الشرعي وجدانا ، ونشك في بقاء نفس هذا المصداق ، ومنشؤه الترديد في أن المصداق الحادث ، هل يكون طويل العمر ، أو قصير العمر ؟ فيكون الاستصحاب في الحكم الشرعي . والحاصل : أن متعلق العلم الاجمالي ليس كليا منطبقا على الطرفين أو الأطراف ، بل متعلقه ليس إلا الخارج ، فإنا نعلم بحدوث الحكم الشرعي وجدانا ، ونشك في بقاء نفس ذلك الحكم الشرعي وجدانا ، فتتم الأركان ، ويستصحب وجود الحكم الشرعي وإن لم يترتب عليه آثار شئ من الخصوصيتين . فتأمل . وأما الشك في المقتضي فهو وإن يحتمل أن يكون وجها لعدم التسليم ، إلا أن المقام ليس منه ، بل يكون من الشك في الرافع ، فإن الإباحة لو لم يرجع فيها تبقى قطعا ، فلها مقتضي البقاء ، والرجوع مانع عنه . وما يقال : من أنه لا يعلم أن حكم الشارع هل هو محدود بما قبل الرجوع أو يعم ما بعده ؟ فالشك في حد اعتبار الشارع ، فيكون من الشك في المقتضي ، مجرد تعبير ، فإن منشأ الشك في بقاء الأحكام في مقام الجعل ليس إلا النسخ وعدمه ، ولا معنى لاستصحاب الحكم في مقام الجعل إلا مع هذا الاحتمال . فلو شككنا في أن جعل الشارع هل تعلق بالإباحة المحدودة أو غيرها ، فلا معنى لاستصحاب جعل الشارع أصلا . نعم ، في مقام المجعول يتصور الاستصحاب ، وهو أن الإباحة سابقا هل تبقى بالرجوع أم لا ؟ ولا إشكال في أن الرجوع مزيل لهذه الإباحة ، فيكون الشك في الرافع لا المقتضي ، بل يمكن أن يقال : إن في مقام الجعل أيضا الأمر كذلك ، فإن الشارع لم يعتبر الإباحة محدودة أو مطلقة ، بل المفروض أنه اعتبر المعاطاة سببا أو موضوعا للإباحة تأسيسا أو إمضاء ، وعلى فرض تأثير الرجوع جعله مزيلا لها ، فيكون الشك في الرافع ، لا في المقتضي . والحمد لله رب العالمين . المقرر حفظه الله .