وأمّا ثالثا : فلأنّ النوح والرهبانيّة عطفا على الغناء ، وتقديره : يرجّعون القرآن ترجيع الغناء وترجيع النوح وترجيع الرهبانيّة . فعلم أنّ ترجيع الغناء ، أخصّ مطلقا من مطلق الترجيع المطرب الشامل للجميع - أعني الغناء اللغوي - لكون كلّ منها مطربا . فتعيّن أن يكون الغناء المنهيّ عنه هو الغناء العرفيّ الأخصّ من الغناء اللغويّ . لا يقال : يجوز أن يكون هذا من قبيل عطف الخاصّ على العامّ . لأنّا نقول : الأصل في المتعاطفات أن تكون متباينات ؛ نعم يرتكب خلافه نادرا ، لكن لا مطلقا ، بل إذا كان فرط اهتمام بشأن الخاصّ كعطف جبرئيل وميكائيل على الملائكة ، وظاهر أنّ الاهتمام بشأن إخراج ترجيع النوح ليس بأشدّ منه بشأن إخراج ترجيع الأصوات الملهية المفرّحة التي يزيّنها ضرب الدفوف والتصدية وأمثالهما ، فلو كان الأمر كذلك لكان يجب أن يعطف هذا عليه . فتعيّن أن يكون مستعملا في معناه العرفي - أعني لحون أهل الفسق التي يزيّنها ضرب الدفوف والتصدية والرقص وآلات اللهو - وذلك ظاهر ويدلّ على ذلك ما روي في المجمع عن رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وآله وسلَّم أنّه يقول : « إنّ القرآن نزل بالحزن فإذا قرأتموه فابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا ، وتغنّوا به ، فمن لم يتغنّ بالقرآن فليس منّا » . [1] أقول : وهذا صريح في الأمر بالتغنّي بالقرآن ، لا بالغناء العرفي لورود النهي عنه بل الغناء اللغوي ، لكن لا أيّ فرد منه بل الفرد الذي يورث البكاء والحزن بقرينة ما قبله ، وقد عرفت في المقدّمة الفلسفية أنّ من أنواع الغناء ما يورث البكاء والحزن . وقال الشيخ بعد ذكر هذا الحديث : وتأوّل بعضهم تغنّوا به بمعنى استغنوا به . وأكثر العلماء على أنّه تحزينه وتزيينه . [2]
[1] مجمع البيان ، ج 1 ، ص 16 ، المقدّمة ، الفنّ السابع . [2] مجمع البيان ، ج 1 ، ص 16 ، المقدّمة ، الفنّ السابع .