مذكَّرة للآخرة ونعيمها ، مبعدّة عن ارتكاب اللذات الحسّية الدنيّة ، بحيث إذا سمعه المغمور في الشّهوات الدنيّة الخسيسة ، المسجون في سجن إدراك اللذات الطبيعيّة البهيميّة فانزعج من مقامه ، وانقلع من مكانه ، وتندم ممّا كان عليه ، خائفا من شدّة وباله ، وألم عذابه ، فتململ تململ السليم ، وبكى بكاء الحزين ، قائلا : يا حسرتي على ما فرطت في جنب اللَّه ، ظاهرا من صفحات وجهه وفلتأت لسانه وفرط اضطرابه وكثرة التوائه أنّه يقول بلسان الحال : * ( رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ ) * فإن ادّعيتم فيه محذورا عقليّا فأتوا به إن كنتم صادقين [1] انتهى . وحاصله أن تحريم هذا الغناء لا دليل عليه من نقل ولا عقل ، فيكون مباحا . ومثله ما ذكره الغزاليّ في ( إحياء العلوم ) قال : اعلم أنّ قول القائل « السماع حرام » معناه أنّ اللَّه يعاقب عليه ، وهذا أمر لا يعرف بمجرد العقل ، بل بالسّمع ، ومعرفة الشرعيّات محصورة في النصّ أو القياس على المنصوص ، وأعني بالنصّ ما أظهره بقوله أو فعله وبالقياس المعنى المفهوم من ألفاظه وأفعاله . فإن لم يكن فيه نصّ ، ولم يستقم فيه قياس على منصوص ، بطل القول بتحريمه ، وبقي فعلا لا حرج فيه كسائر المباحات . ولا يدلّ على تحريم السماع نصّ ولا قياس ، ويتّضح ذلك في جوابنا عن أدلَّة المائلين إلى التحريم ، ومهما تمّ الجواب عن أدلَّتهم كان ذلك مسلكا كافيا في إثبات هذا الغرض . لكن نستفتح ونقول : قد دلّ النصّ والقياس جميعا على إباحته . إلى آخر ما ذكره [2] وهو طويل لا مزيد عليه ، ولكن بعض ما ذكره لا يناسب مذهبنا . ومنها : أنّ الشبهة في هذه المسألة - على تقديرها - إمّا موضوعيّة تحريميّة أو حكميّة كذلك .
[1] . رسالة إيقاظ النائمين . [2] . احياء علوم الدين ، ج 2 ، ص 294 .