وثانيا : سلَّمنا كون التورية في الآيات والروايات مخرجة عن الكذب ، لكنّه في خصوص ما لم تكن التورية على خلاف الظاهر ، كما في المجملات من الآيات [1] والروايات [2] المستدلّ بها ، لا فيما له ظاهر ويورّي بإرادة خلافه من غير قرينة صارفة ، كما هو المدّعى . فالاستدلال بها على تقدير الدلالة خارج عن المقالة . * قوله : « والعقل مستقلّ بوجوب ارتكاب أقلّ القبيحين » . * أقول : فيه أوّلا : أنّ ارتكاب أقلّ القبيحين إنّما مجراه في خصوص ما لو دار أمر المكلَّف الواحد لا المكلَّفين بين ارتكاب أقلّ القبيحين العقليّين أو الضررين الدنيويّين ، كما لو أكره المكلَّف مخيّرا بين كذب أو كذبين أو ظلم أو ظلمين أو شتم أو شتمين في غير الدماء ، أو قطع إصبعه أو قطع حياته ، بخلاف ما لو دار الأمر في ارتكاب أقلّ القبيحين أو الضررين بين مكانين ، كارتكاب أحد للأقلّ والآخر للأكثر ، كما فيما نحن فيه ، فإنّ الأمر دائر بين ارتكاب قبح كذب وارتكاب الآخر ما هو أقبح منه : فإنّه لا يرجّح العقل ارتكاب قبيح لدفع الأقبح عن الغير . ألا ترى أنّه لا يجوز الظلم ولو بأقلّ ما يكون لدفع ظلم من هو أشدّ ظلما على الناس ، وإلا لصحّ الظلم من كلّ من يكون ظلمه أقلّ من ظلم الآخر ، ولو كان ابن سعد بالنسبة إلى شمر ، وهو بمكان من القبح العقلي وخلاف الضرورة . وكذا لو دار الأمر في ارتكاب أقلّ القبيحين الشرعيّين لا العقليّين ، أو الضررين الأخرويّين لا الدنيويّين ، فإنّه لا يحكم العقل أيضا بتعيين الأقلّ ، بل يرجع فيه إلى ترجيح الشرع ، كما لو دار الأمر بين سرقة درهم أو تفويت ألف صوم أو صلاة ألف يوم فلا يرجّح الأقلّ ، بل يتعيّن الأكثر . وما نحن فيه أيضا من
[1] تقدّم ذكر مصادرهما في هامش ( 1 و 2 ) ص : 199 . [2] تقدّم ذكر مصادرهما في هامش ( 1 و 2 ) ص : 199 .