ومن ثمّ جاءت هذه الكتب العربية كلها على نسق واحد لا يختلف في الجملة فهي أخبار وأشعار ولغة وعربية وجمع وتحقيق وتمحيص ، وإنما تتفاوت بالزيادة والنقص والاختصار والتبسّط والتخفيف والتثقيل ونحو ذلك مما هو في الموضوع لا في الوضع حتى ليخيّل إليك أنّ هذه كتب جغرافية للغة وألفاظها وأخبارها إذ كانت مثل كتب الجغرافية متطابقة كلّها على وصف طبيعة ثابتة لا تتغير معالمها ولا يخلق غيرها إلا الخالق سبحانه وتعالى . وإذا تدبّرت هذا الذي بيّناه لم تعجب كما يعجب المتطفلون على الأدب العربي والمتخبطون فيه من أن يروا إيمان المؤلفين متصلاً بكتبهم ظاهر الأثر فيها وأنهم جميعاً يقررون أنما يريدون بها المنزلة عند الله في العمل لحياطة هذا اللسان الذي نزل به القرآن الكريم وتأديته في هذه الكتب إلى قومهم كما تؤدّي الأمانة إلى أهلها حتى لولا القرآن لما وضع من ذلك شيء البتة . وأنا أتلمّح دائماً العامل الإلهي في كل أطوار هذه اللغة وأراه يديرها على حفظ القرآن الذي هو معجزتها الكبرى وأرى من أثره مجيء تلك الكتب على ذلك الوضع وتسخير تلك العقول الواسعة من الرواة والعلماء والحفاظ جيلا بعد جيل في الجمع والشرح والتعليق بغير ابتكار ولا وضع ولا فلسفة ولا زيغ عن تلك الحدود المرسومة التي أومأنا إلى حكمتها . فلو أنه كان فيهم مجدّدون من طراز أصحابنا من أهل التخليط ثم ترك لهم هذا الشأن يتولّونه كما نرى بالنظر القصير والرأي المعاند والهوى المنحرف والكبرياء المصمّمة والقول على الهاجس والعلم على التوهّم ومجادلة الأستاذ حيص للأستاذ بيص . . . إذن يضرب بعضهم وجه بعض وجاءت كتبهم متدابرة ومسخ التاريخ وضاعت العربية وفسد ذلك الشأن كله فلم يتسق منه شيء .