ودخل الأحنفُ بن قيس على معاوية وافداً لأهلِ البصرة ، ودخل معه النَمر بن قُطْبة ، وعلى النمر عباءة قَطَوَانية [1] ، وعلى الأحنف مِدرَعَةُ صوف وشَملة ، فلمَا مثلا بين يدي معاوية اقتحمَتْهُمَا عينُه [2] ؛ فقال النمر : يا أميرَ المؤمنين ، إنَّ العباءة لا تكلَمك ، وإنما يكلمك مَنْ فيها ! فأومأ إليه فجلس ، ثم أقبل على الأحنف فقال : ثم مَه ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، أهلُ البصرة عدد يسير ، وعَظْمٌ كسير ، مع تتابع من المُحُول [3] ، واتصالٍ من الذُحول [4] فالمكْثِرُ فيها قد أطرق ، والمُقلُّ قد أمْلَق [5] ، وبلغ منه المُخنق ؛ فإنْ رَأى أميرُ المؤمنين أن ينعشَ الفقيرَ ، ويَجْبُرَ الكسير ، ويسهل العسير ، ويَصْفَح عن الذُحول ، ويُدَاوِي المُحول ، ويأمر بالعَطَاء ؛ ليكشف البَلاَء ، ويُزِيل اللأواء [6] . وإنَ السيدَ من يعم ولا يخص ومَنْ يدعو الجَفَلَى ، ولا يَدْعُو النَقَرَى [7] ، إنْ أحْسِنَ إليه شكر ، وإنْ أسِيءَ إليه غَفَرَ ، ثم يكون وراء ذلك لرعيته عِمَاداً يَدْفعُ عنها المُلّمات ، ويكشفُ عنهم المعضلات . فقال له معاوية : ها هنا يا أبا بحر ثم تلا : " وَلَتَعْرِفَنَهُمْ في لَحْنِ الَقْوْل " . ومن جميل المحاورات ما رواه المدائني ، قال : وَفَدَ أهل العِراق على معاوية ، رحمه اللّه ، ومعهم زيادٌ ، وفيهم الأحنف ، فقال زياد : يا أميرَ المؤمنين ، أَشْخَصَتْ إليك أقْوَاماً الرغبةُ ، وأقعد عنكَ آخرين العُذْرُ ، فقد جعلَ الله تعالى في سَعَة فضلك ما يُجْبَرُ به المتخلّف ، ويكافأُ به الشاخص . فقال معاوية :
[1] نسبة إلى قطوان وهو موضع بالكوفة [2] اقتحم : احتقر [3] المحول : جمع محل ، وهو الضيق [4] الذحول : جمع ذحل ، وهو الثأر [5] أملق : من الإملاق ، وهو الفقر [6] اللأواء : الشدة [7] يدعو الجفلى : يدعو الجماعة ، والنقرى : دعوة الفرد . قال طرفة : نحن في اللأواء ندعو الجفلى * لا ترى الآدب منا ينتقر