فالله سبحانه إنما حرم علينا الخبائث لما فيها من المضرة والفساد ، وأمرنا بالأعمال الصالحة لما فيها من المنفعة والصلاح لنا ، وقد لا تحصل هذه الأعمال إلا بمشقة ؛ كالجهاد ، والحج ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وطلب العلم ؛ فيحتمل تلك المشقة ويثاب عليها لما يعقبه من المنفعة ، كما قال النبي ( ص ) لعائشة لما أعتمرت من التنعيم عام حجة الوداع : « أجرك على قدر نصبك » [1] ، وأما إذا كانت فائدة العمل منفعة لا تقاوم مشقته ؛ فهذا فساد ، والله لا يحب الفساد . ومثال ذلك منافع الدنيا ، فإن من تحمل مشقة لربح كثير أو دفع عدو عظيم كان هذا محموداً ، وأما من تحمل كلفاً عظيمةً ومشاقاً شديدةً لتحصيل يسير من المال أو دفع يسير من الضرر كان بمنزلة من أعطى ألف درهم ليعتاض بمئة درهم ، أو مشى مسيرة يوم ليتغدى غدوة يمكنه أن يتغدى خيراً منها في بلده . فالأمر المشروع المسنون جميعه مبناه على العدل والاقتصاد والتوسط الذي هو خير الأمور وأعلاها ؛ كالفردوس ؛ فإنه أعلى الجنة ، وأوسط الجنة ، فمن كان كذلك فمصيره إليه أن شاء الله تعالى . هذا في كل عبادة لا تقصد لذاتها ؛ مثل الجوع ، والسهر ، والمشي . وأما ما يُقصد لنفسه ؛ مثل معرفة الله ، ومحبته ، والإنابة إليه ، والتوكل عليه ؛ فهذه يشرع فيها الكمال ، لكن يقع فيها سرف وعدوان بإدخال ما ليس منها فيها ، مثل أن يدخل ترك الأسباب المأمور بها في التوكل ، أو يدخل
[1] رواه البخاري في ( الحج ، باب أجر العمرة على قدر النصب ، 1787 ) ، ومسلم في ( الحج ، باب بيان وجوه الإحرام أنه يجوز إفراد الحج والتمتع ، 1211 ) ؛ من حديث عائشة رضي الله عنها .