كما ظهر أيضا ممّا ذكرناه ما في كلام الفلاسفة ، حيث ربطوا إدراك الحسن والقبح بباب المصلحة والمفسدة ، لكن ليس كلّ مصلحة ومفسدة ، بل خصوص ما لا يحتاج منهما في مقام الإدراك إلى تأمل عقليّ ، فيدركهما جميع العقلاء ، ونتيجة لذلك يتطابقون - لأجل الحفاظ على المصالح والتجنّب عن المفاسد - على مدح فاعل ما فيه المصلحة ، وذمّ فاعل ما فيه المفسدة . ومن هنا سمّوا القضايا التحسينيّة والتقبيحيّة بالمشهورات . أقول : أمّا ربطهم لدرك الحسن والقبح بالمصلحة والمفسدة فغير صحيح سواء أريد المصلحة والمفسدة الشخصيّتان أو النوعيّتان ، أي ما يرجع إلى حفظ نظام المجتمع وبقاء النوع ، فإنّه يلزم من ذلك على أيّ حال دوران الحكم لديهم بالحسن والقبح مدار نتيجة التزاحم بين المصالح والمفاسد ، بينما ليس الأمر كذلك . وأمّا ما ذكروه نتيجة لذلك من أنّ هذه قضايا مشهورة ، فلم يتّضح لنا - ممّا رأيناه من كلماتهم - ما هو مرادهم من ذلك ، فإنّه يحتمل في كلامهم أمران : الأوّل : أن يكون مرادهم من ذلك إنكار ضمان حقانيّة هذه القضايا ، لعدم ضامن لحقانيّتها عدا الشهرة التي لا تصلح لذلك . ولذا ترى الشيخ الرئيس يقول : إنّه لو خلق إنسان في مكان منفردا ، ولم يتعلم المحسّنات والقبائح بالمعاشرة ، لم يدرك بعقله ولا بوهمه ولا بحسّه حسن العدل وقبح الظلم . وذكر أيضا هو وشارح إشاراته المحقّق الطوسيّ ( رحمه اللَّه ) : إنّ القضايا المشهورة ليست بيّنة الصحة وان كانت قد تصح . وهذا المعنى - الذي يظهر من بعض كلماتهم كما عرفت - راجع في الحقيقة إلى ما سيأتي إنشاء اللَّه من بحثنا الثالث ، وهو البحث عن حقّانيّة