الوجه الثاني : أن يستقرء بحسب التّاريخ والزّمان الحاضر المجتمعات المختلفة الكثيرة لتحصيل القطع بالتجربة على أنّه لا ينبغ أحد في مجتمع ما ولا يفوق ذاك المجتمع في الفهم والذكاء إلَّا بنسبة خاصّة وتحت مستوى معيّن من الفرق ، ثمّ يلاحظ المجتمع الَّذي نبغ فيه النبيّ ( ص ) ، ويرى ما جاء به من أحكام وأفكار في شتّى الميادين ، ويلاحظ أنّها تفوق بدرجات كثيرة على أعلى درجات الذكاء الممكن لنابغة ينبغ في ذاك المجتمع بحسب الطبع البشريّ - وإن كان من المحتمل علوّ ذكائه إلى حدّ تلك الأحكام والأفكار بلحاظ نبوّته - فيثبت بذلك أنّ تلك الأحكام والأفكار ليست له إن هي إلَّا وحي يوحى علَّمه شديد القوى . هذا أساس لبراهان صحيح على النبوّة يؤثّر في النّفوس أكثر وأشدّ من تأثير البرهان الكلامي المعروف ثبّتناه هنا بأمل أن يوفّق اللَّه تعالى بعد هذا شخصا لبيان إثبات النبوّة على هذا الأساس مع ما يحتاج إليه من مزيد تتبع وتنقيح . الوجه الثّالث : ملاحظة أحوال الرسول ( ص ) ، وأمانته ، وصدق لهجته ، وخلقه العظيم ، واستقامته في أمره ، وصموده أمام المحن والمصائب الَّتي كانت تكفي لرفع يد الكاذب عن كذبه ، وعلوّ همّته بدرجة لو وضعت الشّمس في يمينه والقمر في يساره وجعل سلطانا على وجه الأرض لما رفع اليد عن دعوته ، فلا يعقل أن تكون دعوته استطراقا إلى كسب المال والجاه وما أشبه ذلك . فمن لاحظ كل هذا وما إليه حصل له القطع - إذا كان سليما في فطرته وعقله - بنبوّته ( صلَّى اللَّه عليه وآله ) . هذا تمام الكلام في البحث النقضي عن إنكار الحسن والقبح أشعريّا أو أخباريّا .