عنايته كانت موجهة إليه لأسباب أخرى . فأحببت أن أتعرّف أكثر على هذا الطفل سيّما وأنني حديث عهد بالعلم في المدرسة المذكورة . وشاءت الصدف أن انفرد بالسيّد المدير فأستوضح منه عمّا كان يشغل تفكيري بشأن هذا الطفل فأجابني : أرجو أن ترعاه كما يرعاه زملاؤك من الهيئة التدريسيّة ، فقد سبق وأوصيتهم به خيرا لأنّني أتوسّم فيه أن يكون له مستقبل كبير باعث على التفاخر والاعتزاز بما يقوم به وبالدرجة العلميّة التي أترقّب أنّه سيصلها ويبلغها ، فرحت أرقب هذا الطفل عن كثب ، فأقرّبه إلي وأتحدّث معه كلَّما سنحت الفرصة مظهرا إليه حبّي وودّي اللذين نميا مع الأيّام بل الساعات ، فصار محبّا لي متعلَّقا بي لا يفارقني في الصفّ أثناء الدرس أو بعده أثناء فترة الاستراحة . وقد كان طفلا يحمل أحلام الرجال ويتحلَّى بوقار الشيوخ ، وجدت فيه نبوغا عجيبا وذكاء مفرطا يدفعانك على الاعتزاز به ويرغمانك على احترامه وتقديره ، كما شهدت كل المدرسين أيضا يكنّون له هذا الاحترام وهذا التقدير . لقد كان كل ما يدرس في هذه المدرسة من كافة العلوم دون مستواه العقليّ والفكريّ ، كان شغوفا بالقراءة محبا لتوسيع دائرة معرفته ساعيا بجد إلى تنمية مداركه ومواهبه الفذة . لا تقع عيناه على كتاب إلَّا وقرأه وفقه ما يحتويه في حين يعزّ فهمه على كثير ممّن أنهوا المرحلة الثانويّة . ما طرق سمعه اسم كتاب في أدب أو علم أو اقتصاد أو تاريخ إلَّا وسعى إلى طلبه . كان يقرأ كلّ شيء . وقد حدّثني أحد الزملاء ممن كان لديهم إلمام بالماركسيّة واطلاع على كثير من الكتب التي كتبت فيهما قائلا لي : لقد جاءني يوما مبديا رغبته في أن يقرأ بعض الكتب الماركسيّة ونظريّاتها ليطَّلع على مكنونات هذه النظرية ، تردّدت في بادئ الأمر عن إرشاده إلى ذلك لأنّه طفل ، وخشيت أن تتشبع أفكاره بالماركسيّة ونظرياتها . وبعد إلحاح منه شديد ولما كنت لا أحب ردّ طلبه أرشدته إلى بعض المجلَّات والكتب المبسطة في كتابتها عن الماركسيّة وفي عرضها لها . وقد أخذت على عاتقي تهيئة ما تيسّر لي من هذه المجلَّات والكتب وهي نادرة وعزيزة لأنها كانت آنذاك من الكتب المحرم بيعها في المكتبات . وبعد أن تسلَّمها منّي تهلَّل وجهه فرحا ثم أعادها إليّ بعد أن قرأها مكرّرا