والغرض من هذه الإطالة : أن للحروف أيضا مفاهيم في الذهن فانية في الرابط الخارجي الذي هو عين الربط ، وهو مما يقضي به الضرورة ، فإن لفظة " من " و " إلى " وغيرهما أيضا - كألفاظ الأسماء - يحصل عقيب استعمالها صورة في الذهن حاكية عن الخارج ، وهذه الصورة الذهنية زائدة عن الصورة المقابلة والتابعة لاستعمال الأسماء كما هو واضح . وحينئذ فإذا لوحظت هذه الصورة الفانية في الخارج وهذا المفهوم مع قطع النظر عما يتعلق بها وجدناها مفهوما كليا لا يحكي إلا عن الابتداء الرابط الكلي ، وذكر طرفيه يعين الطرف له ويوجب ورود قيد فيه ، من باب تعدد الدال والمدلول ، فكما أن لفظ " العالم " في قولنا : " أكرم العالم العادل الهاشمي " يدل على كلي معنى " العالم " وزيادة العادل والهاشمي إليه يوجب ورود قيد على معناه الكلي من باب تعدد الدال والمدلول ، ولا يوجب ذكر القيدين استعمال لفظ " العالم " في غير معناه الكلي الموضوع له ، ويكون المستعمل فيه - في ذاك المثال - عينه فيما لم يجئ بعده قيد أصلا وقيل : " أكرم العالم " فهكذا إذا قلنا : " من البصرة سار زيد " فبمجرد سماع لفظة " من " ينتقل المخاطب من استعمالها إلى معناها الذي هو الابتداء الربطي الناقص ، وهو معنى كلي من جهة جميع الأعمال والأمكنة وغيرها ، فسواء قال : " من البصرة " ، أو " من الكوفة " ، أو " من المسجد " ، أو " من المدرسة " ، أو " من أول سورة " خاصة أي سورة كانت ، أو " من الفصل الفلاني " من أي كتاب كان . . . وهكذا ، سواء قال : سرت ، أو نظرت ، أو مسحت ، أو قرأت ، أو كتبت ، أو طالعت ، أو غير ذلك ، فلا نرتاب أنه لا يحدث تغير في مفاد " من " والمفهوم الذي انتقل إليه الذهن ، وإنما يوجب ذكر الطرفين تتميم نقصه ، وذكر خصوصية الطرفين التي يقوم وجوده في الخارج بها ، فذكرهما يوجب ورود قيد على ذلك المعنى الكلي ، كما كان الأمر كذلك في قولنا : " أكرم العالم العادل الهاشمي " إن قلت : إن مفهوم الحروف مفاهيم ربطية متعلق الذات والقوام بطرفيها ، فلا يعقل تصورها مع قطع النظر عن طرفيها ، فإنه في قوة انتفاء ذاتها .