مع اعتبار الإيجاب والقبول في العقد الفاسد أيضا أقول في جميع ما ذكره نظر أما في قوله إنّ الإرادة ممّا يقبل الصّدق والكذب فلا يصلح مدلولا للأمر الَّذي هو من قبيل الإنشاء الغير المتّصف بها ففيه أنّه إن أراد أنّ الإرادة بنفسها قابلة للصّدق والكذب فهو ممّا لا معنى له وإن أراد أن الإخبار بها قابل لهما فهو مسلَّم لكن الصّيغة غير موضوعة لإخبارها بل لإظهارها وقد عرفت أنّ الإظهار إنشاء لا يتطرق إليه الصّدق والكذب في نفسه وإن تطرق إليه باعتبار ما يلزمها من الإخبار لأنّ كلّ إنشاء يتضمّن إخبارا حتى إنّ بعض الأساطين قال بجريان حكم الكذب من الإثم والعقاب فيها أيضا وممّا ذكر ظهر الجواب عن قوله لبطل الفرق وجه الظَّهور أنّ إظهار الإرادة بصيغة الإنشاء غير إظهارها بصيغة الإخبار وإن اشتركا في صفة الإظهار والكشف عمّا في الضّمير لأنّ مدلول الكلام على التقدير الأوّل هو نفس الإظهار ويستفاد منه الإخبار تبعا كما أومأنا إليه وفي الثّاني هو الإخبار مطابقة وإن استلزم الإظهار تبعا فقوله أريد منك كذا جملة خبرية تدل على ثبوت الإرادة في ضمير المتكلَّم بخلاف قوله افعل كذا فإنّه جملة إنشائية وضعت للدّلالة على إظهار الإرادة لا على ثبوت الإرادة نعم ظاهر الإظهار مطابقة لما تعلَّق به وبهذا الاعتبار قالوا إن كلّ إنشاء فيه إخبار تبعا يعني بالنظر إلى ظاهر الحال وهو مطابقة الإظهار للمظهر ولعمري إن هذا البيان لا غبار عليه بعد النّظر إليه بعين الإنصاف وأقول موضحا لذلك إنّ الصّيغة جعل آلة لإظهار الإرادة فهي تدل بالوضع على صفة الإظهار على حدّ دلالة الباء على الاستعانة في قول القائل بحول اللَّه وقوّته أقوم وأقعد وإن كان بينهما بعض الفرق كما لا يخفى ومن البيّن أنّ الاستعانة المستفادة من الباء في القول المذكور غير قابلة للصّدق والكذب مع أنّه لو أخبر بها في ضمن قضية خبرية فقال استعانتي با لله كان محتملا لاحتمال الصّدق والكذب فكذا الصّيغة وضعت لإظهار الإرادة النفسانية الَّتي هي الملزوم المستتبع للثواب والعقاب سواء كان في الواقع إرادة أم لا و ليس فيها إخبار عن تلك الإرادة حتى ينقلب الإنشاء خبرا نعم الأصل في الإظهار مطابقتها للواقع لكنه ليس إذا خالف الواقع كالتدليس كان معنى مجازيا للصّيغة وبهذا البيان يعرف أنّ الأوامر الامتحانية وما أشبهها من الإنشاءات الغير المطابقة لما يقتضيه الأصل والظَّاهر كلَّها حقائق لغويّة وإنّ احتاجت إلى القرينة من غير حاجة إلى التزام مغايرة الطَّلب للإرادة في قبال العدلية فهو وإن أصاب في عدّها حقائق لكنّه أخطأ في الطَّريق ولم يجد في التحقيق وممّا ذكرنا يظهر للمتدرّب حال سائر الإنشاءات فإنّ الألفاظ الدّالَّة عليها موضوعة بإزاء إظهار ما في نفس المنشي من التمني أو الترجّي أو الاستفهام أو غير ذلك سواء طابقت الواقع أم خالفت وليست موضوعة بإزائها نفسها وهكذا الكلام في العقود والإيقاعات فهي موضوعة لإظهار التراضي ونحوه هذا كلَّه على تقدير كون الإرادة من الكيفيّات النّفسانية نظير الحبّ والبغض كما هو مبنى كلامه قدّس سره وأمّا على تقدير كونها من أفعال النّفس فما حققه قدس سره في المقام أوضح سقوطا كما لا يخفى ومنها أنّ اللَّه تعالى أمر الكافر بالطَّاعة ولم يردها منه فثبت تخلَّف الأمر عن الإرادة أمّا أنّه تعالى أمر الكافر بالطَّاعة فبالضّرورة والإجماع وأمّا أنّه لم يردها منه لكونها ممتنعة والممتنع لا يكون مراد اللَّه بالاتفاق وأمّا وجه الامتناع فهو أنّه تعالى قد علم منهم الكفر والعصيان وكلَّما جرى في علمه سبحانه تعالى امتنع خلافه لاستحالة انقلاب علمه جهلا هكذا نقل العلَّامة ره وجه الامتناع وهنا وجهان آخران أحدهما ما هو مبني على أصل الأشعري من أنّ الفعل قبل وجوده غير مقدور وإرادة الغير المقدور ممتنعة فيجب أن لا يكون الطَّاعة مأمورا بها لأنّها لم توجد من الكافر حتى تكون مقدورة وثانيهما أنّ أفعال العباد إمّا أفعال اللَّه تعالى كما عليه الأشعري أو مستندة إلى فعله ولو بعيدا لاستحالة التّسلسل وعلى التقديرين يمتنع تعلَّق إرادة اللَّه تعالى بالطَّاعة لأنّه تعالى أراد منهم الكفر لأنّ إرادة السّبب إرادة للمسبّب قطعا ومع إرادة الكفر يمتنع إرادة الطَّاعة لاستحالة الجمع بين إرادة الضّدّين وأورد على الأوّل بوجوه الأوّل المنع من امتناع تعلَّق الإرادة بالممتنع على أصول الأشاعرة فإنّهم يجوّزون التكليف بالمحال وفيه نظر لأنّ التكليف غير الإرادة إذ يكفي في الأوّل مجرّد الأمر والطَّلب من دون أن يكون معه إرادة للفعل فلا منافاة بين جواز التكليف بالمحال وامتناع إرادته مع أنّ الحاجبي والعضدي قد أنكرا قول الأشعري بجواز تعلَّق التكليف بالممتنع وقال الثاني أنّ المحققين على عدم جوازه وأنّ قول الأشعري بأنّ أفعال العبد مخلوقة لله تعالى وقوله بأنّ الفعل قبل وجوده غير مقدور وصارا سببين لنسبة القول المذكور إليه والثّاني ما ذكره العلَّامة رحمه الله في التهذيب من منع عدم إرادة الطاعة من الكافر والعلم لا يؤثر في المعلوم وزاد في محكي النهاية وقال إنّ الاستحالة نشأت من فرض العلم كما ينشأ من فرض النقيض إذ لا فرق بين العلم والمعلوم أراد أن الاستحالة الفرضية لا ينافي الإمكان لأن كلّ شيء مستحيل على بعض الفروض كفرض وجود نقيضه وأورد عليه بعض المحققين بأنّ تأثير العلم في المعلوم ليس من مقدّمات الاستدلال على امتناع الطاعة إذ يكفي في إثبات ذلك استحالة انقلاب علمه تعالى جهلا لأنّ هذه الاستحالة قاضية بعلمنا بوجوب الكفر من الكفّار ولو لم يكن منشأ لوجوب