وأمّا المقام الثاني : وهو معرفة مقتضى ظاهر الحديث وهل أنّه الاحتمال الأوّل أو الثاني أو الثالث ؟ والجواب : أنّ قوله عليه السلام : « المجمع عليه لا ريب فيه » ظاهر في نفي الريب الواقعي والحقيقي ، وقد استعمل هذا التعبير في القرآن لإفادة نفي الريب الواقعي ، كما في قوله تعالى : ( ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيه ) [1] ، وقوله تعالى : ( رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْم لاَ رَيْبَ فِيهِ ) [2] . إذ المفهوم من هذه الآيات وأمثالها هو نفي الريب والشكّ حقيقةً لا ادّعاءً وتنزيلاً . وبالتالي يكون الاحتمال الثاني خلاف الظاهر ، وكذلك الاحتمال الثالث ؛ إذ الظاهر من التعبير هو نفي الريب بتمام درجاته لا أنّه نفي من جهة مخصوصة كما يدّعي الاحتمال الثالث . وعليه فالمتعيّن هو الاحتمال الأوّل أي إرادة نفي الريب الحقيقي ، ومنه يظهر عدم تماميّة الأمر الثاني ، فلا يكون الحديث دالاًّ على حجّية الشهرة الفتوائية . ثمّ إنّه يمكن القول بأنّ قوله عليه السلام : « المجمع عليه لا ريب فيه » يعني الواضح المعلوم الذي يتّفق عليه الجميع ، والذي ليس بمشهور يعني غير الواضح وغير المعلوم ، وبناءً على هذا التصوّر فإنّ المراد من الحديث هو إذا تعارضت السنّة الواضحة المعلومة ( القطعيّة ) مع السنّة غير الواضحة ( غير القطعيّة ) هو ترجيح الحجّة على اللا حجّة ، وليس ترجيح إحدى الحجّتين على الأخرى ، وبذلك يظهر عدم تماميّة الاستدلال بالرواية على ترجيح المشهور روائيّاً على غيره كما ذكر بعض الأعلام [3] .
[1] البقرة : 2 . [2] آل عمران : 9 . [3] لاحظ مباني الاستنباط ، مصدر سابق : ص 263 .