فإن قيل : إنّ ذلك يستلزم عزل العقل عمّا يتعلّق بأفعال الله وتشريعاته ، وهذا يعني الرجوع إلى نظرية الأشاعرة . كان الجواب : « أنّه من عظيم الجرم أيضاً أن نعزل العقل عن تشخيص أفعاله تعالى في مرحلتي التكوين والتشريع ، أعني أحكام العقل النظريّة والعمليّة . أمّا عزله في مرحلة النظر فبدعوى استخراج القوانين الكلّية النظرية من مشاهدة أفعاله ، ونسلك بها إلى إثبات وجوده حتّى إذا فرغنا من ذلك رجعنا فأبطلنا أحكام العقل الضروريّة بسبب أنّ العقل أهون من أن يحيط بساحته أو ينال كنه ذاته ودرجات صفاته ، وأنّه فاعل لا بذاته ، بل بإرادة فعليّة ، والفعل والترك بالنسبة إليه سواء ، وأنّه لا غرض له في فعله ولا غاية ، وأنّ الخير والشرّ يستندان إليه جميعاً ، كما قالت الأشاعرة . ويرد عليه : أنّ إبطال أحكام العقل في تشخيص خصوصيّات أفعاله وسننه في خلقه مستلزم لإبطال أحكام العقل في الكشف عن أصل وجوده ، وأشكل من ذلك أنّا نفينا بذلك مطابقة هذه الأحكام والقوانين المأخوذة من الخارج للمأخوذ منه ، والمنتزعة للمنتزع منه ، وهو عين السفسطة التي فيها بطلان العلم والخروج عن الفطرة الإنسانيّة ، إذ لو خالف شيء في أفعاله تعالى أو نعوته هذه الأحكام العقليّة كان في ذلك عدم انطباق الحكم العقلي على الخارج المنتزع عنه - وهو فعله - ولو جاز الشكّ في صحّة شيء من هذه الأحكام الضروريّة لكان الجميع ممّا يجوز فيه ذلك فينتفي العلم ، وهو السفسطة . وأمّا في مرحلة العمل فقد ذكرنا أنّ أحكام العقل العملي أمور اعتباريّة ومخترعات ذهنية وضعها الإنسان ليتوصّل بها إلى مقاصده