في حين
أنني أجد أن الإنسان البدوي لا يمكن أن يكون بتلك السذاجة التي تعبث بمقدراته بعض
أصوات طائر البومة، أو نعق الغراب، أو حفيف الأشجار، ولعل حركة الجرابيع في
الصحراء لها أثرها المميز في تكوين معتقداته فيتهيأ الجن والأرواح والغيلان وما
إلى ذلك.
ليركع أمام
أعتاب الكهنة يلتمس منهم دفع المرض عنه، أو صيانة ماله، أو وفرة رزقه بل:
إنني وجدت أن
الإنسان العربي ذو قدرة كبيرة في التعامل مع الأحداث والأفكار الوافدة عليه، فيأخذ
بهذه، ويترك تلك حسبما ينسجم أولاً مع مصلحته، وثانياً مع طبيعة عيشه.
ولعل: كلام
النضر بن الحارث لصورة واضحة عن قدرة الإنسان العربي على التمييز بين تلك الأنماط
المذهبية، والمعطيات الفكرية إلى الحد الذي كان يدرك بشكل كبير خطورة ما يدعو إليه
النبي صلى الله عليه وآله وسلم والذي استوجب منهم عقد الجلسات والمشاورات في كيفية
مواجهته فقال ــ ولا بأس بإعادة قوله للاستدلال، وإن كنا ذكرناه آنفا ــ:
(يا معشر
قريش إنه والله قد نزل بكم أمر ما أشلتم له نبله بعد، لقد كان محمد فيكم غلاما حدثا
أرضاكم فيكم، وأصدقكم حديثاً، وأعظمكم أمانة، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب وجاءكم
بما جاءكم، قلتم: ساحر، ولا والله ما هو بساحر، قد رأينا السحرة ونقثهم وعقدهم، وقلتم:
كاهن، ولا والله ما هو بكاهن وقد رأينا الكهنة وحالهم وسمعنا سجعهم؛ وقلتم: شاعر،
ولا والله ما هو بشاعر، ولقد روينا الشعر وسمعنا أصنافه كلها هزجه وقريضه؛ وقلتم:
مجنون، ولا والله ما هو بمجنون، ولقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ولا وسوسته ولا
تخليطه، يا معشر قريش، أنظروا في شأنكم فإنه قد نزل بكم أمر عظيم)([69]).
وهذا النص
التاريخي يكشف عن قدرة الإنسان العربي (المكي) في تشخيص المعتقدات، بل وكافة
الأفكار التي يمر بها المجتمع، وهو قادر أيضاً على مواجهة كل معتقد بما يناسبه عدا
هذا الدين الجديد الذي يظهر
[68]الأساطير والمعتقدات
العربية قبل الإسلام، د. ميخائيل سعود: ص 77 ــ 80.