هذا التطور دفع بريطانيا لاستنفار طاقاتها
وتفعيل نفوذها، لتتشبث بمواقعها بكل جدية، فلذلك أصبح تواجد سفنها الحربية في مياه
شط العرب بصفة دائمة، وقد تحولت إمارات الخليج إلى محميات بريطانية، ففي الكويت
افتتحت قنصلية بريطانية عام 1904م، وتمّت عدة اتفاقيات بين بريطانيا وشيوخ الكويت
والبحرين وعمان وقطر وشيخ المحمرة، كرست من خلالها السيطرة البريطانية على الموارد
الطبيعية، فلا تمنح -بموجبها - امتيازات صيد اللؤلؤ والإسفنج واستخراج النفط إلا
بموافقة بريطانيا. ولا يعني أنّ هذا التطور لنفوذ بريطانيا في المنطقة كان يتمّ
بمعزلٍ عن المنافسة الأوروبية التي كانت في حقيقتها تستبطن صراعاً حاداً بين
المتنافسين، إلاّ أن الجامع المشترك الذي كان يوحّدهم هو اشتراكهم في محاولة إسقاط
الدولة العثمانية، وتقسيم تركتها الهائلة، هذا الهدف الموحَّد هو الذي أخفى مظاهر
الصراع ومنعها من الظهور على سطح الأحداث، وعليه سارت الأمور في مسار الاتفاقيات
السّرية من وراء الكواليس بين القوى المتنافسة، فعقدت بين إنكلترا وفرنسا في نيسان
1904م ثلاث اتفاقيات كانت بداية (الوفاق الودي)، وفي 1907م وقّع الميثاق الإنكليزي
- الروسي وبموجبه قسمت إيران إلى مناطق نفوذ لهما([153])،
ومن ثم دخلت بريطانيا في مفاوضات مع ألمانيا والدولة العثمانية حول مسألة بناء سكة
حديد بغداد، فقد وافقت بريطانيا سنة 1909م على أن تكون لألمانيا حرية تامة في
العمل إلى الشمال من بغداد، شريطة أن يكون لها الامتياز ذاته في جنوب ما بين
النهرين، واستمرت هذه الاتفاقيات والتنازلات المتبادلة، إلاّ أن النتيجة النهائية
كانت في العراق لصالح النفوذ البريطاني. وبالإضافة إلى ذلك، فقد مارست بريطانيا
نشاطات خاصة في الوسط الاجتماعي بالعراق، غرضها تسقيط الهيبة العثمانية، وتأجيج
نار العداء ضد الحكومة العثمانية([154])،
وكانت «تمارس بالسر نشاطاً
تخريبياً واسعاً بين القبائل العربية المحلية، أن الإنكليز لم يتوقفوا عن مد العرب
بالأسلحة النارية المحسنة التي كانت تنتشر في العراق بطريق التهريب، كما أن
الوكلاء السياسيين الإنكليز لم يبخلوا بالأموال لأغراض الهدايا والرشاوى، وكذلك لم
يترك القناصل الإنجليز أية فرصة إلا واستغلوها لإقامة علاقات مباشرة مع الشيوخ
العرب المتنفذين، مؤججين فيهم كراهية النظام (العثماني)»([155]).
[153] الحسني، عبد الرزاق:
تاريخ العراق السياسي الحديث - مرجع سابق-، ج1،ص40-42.