لهذا الشقاق وجود
بشهادة الجميع منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر، حتى أن السُّنة والشيعة
كانوا يتزاوجون، ولكن الشقاق المذهبي أخذ يشتد من سنة لأُخرى، منذ أن أصبح الأتراك
يناصرون السُّنة علناً ضد الشيعة»([109]). ويبدو لنا من مجمل الأحداث أن الحكّام
الأتراك في سياستهم الإدارية للعراق كانوا يريدون من الشعب أن يكون مسلماً
بطريقتهم الخاصة ليتمكّنوا منه، وأن يكون منتمياً لقوميّته ووطنيته بطريقتهم
الخاصة - أيضاً - ليستوعبوا طموحه وتطلعاته، فتجاهلوا المسلمين الشيعة تماماً،
وذلك باتباعهم سياسة الإقصاء والإلغاء لهم من الحياة السياسية والمواقع الإدارية،
ومع كل ذلك لم يفلحوا في تحقيق أهدافهم، بل اصطدموا بصخور الوعي لدى المسلمين
الشيعة، ومتانة تماسكهم حول قياداتهم العلمائية الواعية، وبالفعل أصبح المسلم
الشيعي عَصِيّاً على دوائر التمييز الطائفي والقومي للدولةالعثمانية.
وها هنا - بالتحديد - موضع الجرح النازف، ونحن إذ نضع
الإصبع على الألم العميق نكتشف بوضوحٍ تام جذور الحقيقة الكامنة وراء الضعف
الإداري للسلطة العثمانية. ومن هنا نقول - بصراحة-: إن العلاقة بين الدولة
العثمانية والمسلمين الشيعة كانت تتسم بالعداء والتوتر على طول المسيرة، كنتيجةٍ
طبيعيةٍ للسياسة الطائفية والتميزية التي كانت تتبعها الدولة العثمانيةضدّهم.
ولكن،
وبالرغم من كل تلك المعاناة المؤلمة، سجّل علماء المسلمين الشيعة مواقفهم المبدئية
التي يشهد لها التاريخ، اتجاه الدولة العثمانية المسلمة في أحلك ظروفها، حيث وقف
علماء الشيعة بكل ثقلهم وقدراتهم وامتداداتهم إلى جانب الدولة العثمانية في
معاركها المصيرية - كما سنرى ذلك - وإن دلّ هذا الأمر على شيء إنما يدلّ على نضوج
الوعي السياسي لدى علماء الشيعة، المنبثق من الأصالة الإسلامية لديهم. ومعنى ذلك،
أن الخلافات والأزمات ووجهات النظر بل أكثر من ذلك، أن الإشكاليات الفكرية
والعملية التي دفعت الشيعة لمعارضة سياسة العثمانيين عموماً وبالذات سياسة السلطان
عبد الحميد الثاني في أواخر العهد العثماني، ولمعارضة سياسة الاتحاديين بشكل
أوسع.. كل ذلك يجمعه علماء الشيعة ويضعونه في المجمّدة، بالرفوف العالية، لغرض شحذ
الهمم، وتركيز العزائم للوقوف إلى جانب الدولة العثمانية التي ترفع لواء الإسلام
والجهاد