ما سرت إلا قليلا حتى رأيت رجلا وقع في نفسي
أن اسمه عثمان بن حنيف، وكان يقرأ رسالة أرسلها له أمير المؤمنين علي بن أبي طالب،
ومما سمعته من رسالته قوله: (ألا وإنّ لكلّ مأموم إماماً يقتدي به، ويستضي ء بنور
علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطِمريه، ومن طُعمه بقرصيه.. ولو شئت
لاهتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل، ولُباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ، ولكن
هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة
من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أو أبيتَ مبطاناً وحولي بطون غرثى،
وأكباد حرّى، أو أكون كما قال القائل:
وحَسبُكَ داءً أن تَبيتَ ببِطنةٍ وحوَلكَ
أكبادٌ تَحِنُّ إلى القِدِّ
أأقنع
من نفسي بأن يقال: هذا أميرالمؤمنين، ولا اُشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون اُسوةً
لهم في جشوبة العيش! وايم اللَّه - يميناً أستثني فيها بمشيئة اللَّه - لأروضنّ
نفسي رياضةً تهشّ معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً،
ولأدعنّ مقلتي كعين ماء نضب معينها، مستفرغةً دموعها، أتمتلئ السائمة من رعيها
فتبرُك، وتشبع الربيضة من عشبها فتربض، ويأكل عليّ من زاده فيهجع؟! قرّت إذاً عينه
إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة، والسائمة المرعيّة)
سألت
صاحبي عن الرسالة ومرسلها، فقال: هذه الرسالة نموذج عن زهد الحاكم العادل، وهي تدل
على أثر الزهد في العدل، فلا يمكن أن يعدل من امتلأ حرصا وجشعا ورغبة في الدنيا.