قلت: وعيت ما ذكرته في الخانة الأولى.. فما (القدرات) التي
وضعتها في الخانة الثانية؟
قال: كما أن البشر يختلفون في طباعهم التي طبعوا عليها
يختلفون كذلك في توجيههم للقدرات والملكات التي وهبهم الله.. لقد قال الله تعالى
يذكر ذلك:﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ
مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ
دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ
مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ (الزخرف:32)
فبعضهم صرف هذه القدرات للعلم.. وبعضهم صرفها للتجارة..
وبعضهم صرفها للسياسة.. وبعضهم للصناعة.. وهكذا.. وليس من الحكمة أن يخاطب الجميع
بنفس الأسلوب..
قلت: صحيح ما ذكرت.. وقد رأيت في الواقع من يسئ التصرف في
مثل هذا.. فلا يجني من تصرفه إلا الشوك والحنضل..
قال: ولذلك كان رسول الله (ص) حكيم الحكماء يراعي هذه النواحي في
خطابه وفي تعامله:
ومما ورد في السنة من مراعاة رسول الله (ص) لأحوال المدعويين العلمية حديث ذلك
الأعرابي الذي بال في المسجد، وكشف عورته فيه، فقام أصحاب رسول الله (ص) ليقعوا فيه.. لكن سيد الحكماء (ص) أدرك حاله من الجهل، وأدرك أنه ـ في ذلك الحين ـ كان في حالة
خاصة، فعالجه بما يناسب حاله.. فعالج جهله بالتعليم.. وعالج الحالة الخاصة التي
كان عليها بتأخيره حتى يفرغ من بوله، ولو كان في المسجد، ولو كان كاشف العورة، لأن مفسدة قطعه من بوله أعظم من مفسدة
ما يفعل..
لقد بدأ رسول الله (ص) بمعالجة حاله،
ونهى الصحابة أن يتعرضوا له،
بل منعهم من أن يقطعوا عليه بوله،
فقال: (لا تُزرِمُوه)
ثم ما إن انتهت حاله هذه حتى بدأ رسول الله (ص) بمعالجة حاله الأصلية، وهي الجهل، فبدأ يُعلِّمُهُ برِفق، حتى قال
الأعرابي قولته المشهورة،
التي أضحكت رسول الله (ص):(
اللهم ارحمني ومحمدًا، ولا ترحم معنا أحداً)([20])
وقريب من هذا ما حدث به صحابي آخر، فقال:(بينا أنا أصلي مع
رسول الله (ص) إذ عطس رجل من القوم فقلت:
يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم فقلت: وا ثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي،
فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم