وهي تحمل عتابا مبطنا لمن
ينكر عليهن، لأن في إنكاره تعديا على الله، فالله هو الخالق الخبير بخلقه، وهو
أعلم بما في نفوسهم وبواطنهم، وله وحده لذلك الحق في الإنكار أو عدمه.
وفي معرض ذكره للصدقات قال
تعالى:﴿ إِنْ تُبْدُوا
الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ (البقرة:271)،
فالله تعالى عقب على هذا السلوك الذي هو إظهار الصدقات أو إخفائها بكونه خبيرا،
وكأنه يخبر من أظهر الصدقات بأن الله خبير يعلم نيته في إخراجه لها علانية...
فالعلانية لا تدل بحد ذاتها على الإخلاص أو على الرياء، ولهذا فهي تحتاج إلى خبير
يميز بينهما.
لقد كان لي صاحب من مصر.. كان اسمه سيد.. وقد حدثني مرة عن
هذا، فقال ـ وهو يحدثني عن الأسلوب الذي تميز به القرآن المكي ـ:(كان هذا القرآن
يُواجه به النفوس في مكة، ويروضها حتى تسلس قيادها، راغبة مختارة، ويرى أنه كان
يواجه النفوس بأساليب متنوعة، تنوعاً عجيباً.. تارة يواجهها بما يشبه الطوفان
الغامر، من الدلائل الموحية، والمؤثرات الجارفة.. وتارة يواجهها، بما يشبه السياط
اللاذعة تلهب الحس، فلا يطيق وقعها، ولا يصبر على لذعها! وتارة يواجهها بما يشبه
المناجاة الحبيبة، والمسارَّة الودودة، التي تهولها المشاعر، وتأنس لها القلوب..!
وتارة يواجهها بالهول المرعب، والصرخة المفزعة، التي تفتح الأعين على الخطر الداهم
القريب..! وتارة يواجهها بالحقيقة في
بساطة، ونصاعة، لا تدع مجالاً للتلفت عنها، ولا الجدل فيها.. وتارة يواجهها بالرجاء الصبوح، والأمل الندي، يهتف لها ويناجيها.. وتارة يتخلل مساربها، ودروبها
ومنحنياتها، فيلقي عليها الأضواء التي تكشفها لذاتها، فترى ما يجري في داخلها رأي العين،
وتخجل من بعضه، وتكره بعضه، وتتيقظ لحركاتها، وانفعالاتها التي كانت غافلة عنها!..
ومئات من اللمسات، ومئات من اللفتات، ومئات من الهتافات، ومئات من المؤثرات.. يطلع
عليها قارئ القرآن، وهو يتبع تلك المعركة الطويلة، وذلك العلاج البطيء، ويرى كيف
انتصر القرآن على الجاهلية في تلك النفوس العصيّة