قالوا: خيرًا؛ أخ
كريم وابن أخ كريم. فقال محمد: أقول اليوم ما قال يوسف لإخوته:﴿ لا تَثْرِيبَ
عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ﴾ (يوسف: 92).. اذهبوا فأنتم الطُّـلَقاء!
هذه هي محبة الأعداء
والعفو عنهم، وهذا ما حقَّقه محمد، وضرب به المثل للسماحة الَّتِي لا عهد للدنيا
بمثلها؛ فذلك هو العفو والصَّفْح، وتلك هي دماثة الخُلُق، وسعة الصدر، وكرم
المعدن.
إنه لم يَدْعُ الناس إلَى
فضيلة إلَّا بدأ بها بنفسه.. ولم تكن دعوته كلمات عذبة يرسلها علَى الناس؛ ولكنها
كانت عملًا يتقدّم به إلَى الإنسانية، ليكون لها منه أسوة وقدوة.
سكت قليلا، ثم قال:
تأمَّلُوا حياة الأنبياء، وتفكَّروا فيمَن سَلَفَ من المصلحين من الشام إلَى أقصى
الهند؛ فهل تعرفون واحدًا منهم عُمِّرَت حياته بمثل هذِهِ الأعمال الجليلة
المتنوعة، وبمثل هذِهِ الأفعال العظيمة الكاملة؛ الَّتِي يرى فيها الناسُ أسوة
لهم، ومنهاجًا لحياتهم الشخصية والاجتماعية؟
من السهل على أي واعظ أن
يذكر في مواعظه وخطبه (الحب الإلهي) بكلمات عذبة وألفاظ فصيحة رائعة، ولكن ـ كما
قيل ـ إن الشجرة تُعْرَف من ثمرها؛ فماذا كان أثر الحب الإلهي الطاهر في حياته
العملية؟
تعالَوا ادرسوا سيرة محمد
الَّذِي كان يحب الله؛ تجدوه قائمًا في ظلمات الليل يصلِّي والناس نيام، ثم ترونه
باسطًا ذراعيه إلَى السماء يسأل ربه إقامة الحق وتيسير الخير، وقلبه خاشع، وطرفه
دامع، ولسانه رطب بحمد الله وتسبيحه وتمجيده. أليست هذِهِ هي صورة الحب الإلهي في
أكمل حالاتها؟
إن المسيحيين يروون عن
المسيح أنه لما قبَضَ عليه أعداؤه وأرادوا صَلْبَه؛ انطلق لسانه مناديًا: (إيلي،
إيلي! لِـمَ شبقتني؟!)؛ أي: ربي، ربي! لماذا تركتني وخذلتني؟!
أما محمد؛ فإنه لما دنا من
الموت، وأيقن أنه تارك هذِهِ الدنيا، وكادت روحه الطاهرة تفيض صاعدة إلَى ربها؛
أخذ يُناجي ربَّه قائلًا: (اللهمّ إلَى الرفيق الأعلى)! فهو في حَنين شديد إلَى
لقاء ربه، وفي شوق عظيم إلَى رفيقه الأعلى.. فأيّ الجملتين أدلّ علَى الحب الإلهي،
وأيهما أصرح في الحنين إلَى لقاء رب العالمين؟
قال رجل من الجمع: وعينا
هذا وفهمناه، ولا يمكننا إلا أن نسلم بما ذكرت.. فهو مما تظافرت عليه الأدلة،
وتواترت بنقله الأخبار.. فحدثنا عن الدعامة الثالثة التي استندت إليها في التعرف
على كمال محمد العملي.