هل تعلمون بمَن
يرحِّب محمد، ومَن هو هذا القادم الَّذِي فَرِح بقدومه حتى سقط عن مِنكبه رِداؤه،
وشمله بعفوه وصَفْحه؟ إنّ هذا كله لرجل سَبَقَ منه قبل إسلامه أن قاتل المسلمين
وآذاهم، بل هو ابن الَّذِي ألقى علَيه سَلي جَزُور، والذي هَمّ أن يهجم عليه وهو
يصلِّي في المسجد الحرام، والذي هَمّ أن يخنُقه بالرِّدَاء، والذي أشار في دار
النَّدْوَة بقتله، والَّذِي أوقد نار الحرب بساحة بدر، وكادَ للإسلام المكايد ولم
يقبَل الصُّلْح.. هذا ابن ذلك العدوّ الألَدّ، ولم يكن هذا الولد قد اعتزل أباه؛
بل شاركه في جميع فعلاته، فلما قَدِمَ علَى محمد وهو في أوج قُوّته؛ هَشّ له
وبَشّ، ورحّب به واستقبله بوجه طَلق وصَدْر رَحِب.
وعمير بن وهب تآمر على قتل
محمد مع صفوان بن أمية، بعد وقعة بدر؛ فخرج إلى المدينة يترصّد محمدا، ومعه سيف
مسموم؛ فوقع أسيرًا بأيدي المسلمين، وثبتَت عليه جرائمه؛ فخلَّى محمد سبيله، ولم
يمسَسه بسوء.
ولما فتح محمد خَيبر ـ
مَعْقِل اليهود العظيم وحِصنهم المنيع ـ ؛ صَنَعَت يهودية طعامًا ودَعَت إليه
محمدا، فأجاب دعوتها؛ فقدَّمت له لحمًا مسمومًا؛ فلما تناول منه؛ أعلمه الله بذلك؛
فأمسك يده عنه، ودعا باليهودية فسألها عن الشاة المسمومة؛ فاعترفت بجريمتها، وقد
بَلَغَ من حِلْم محمد أن تجاوز عنها، ولم يؤاخذها علَى ذلك بسوء مع أنه بقي مُدّة
حياته يشعر بأثَر ذلك السُّمّ.
وقبص المسلمون علَى ثمانين
من المشركين يوم فتح مكة، وكانوا ممن يحرصون علَى قتل محمد؛ فلما بَلَغَه أمرَهم؛
أمر بتخليَة سبيلهم، ولم يمسسهم بسوء!
سكت قليلا، ثم قال:
إخواني.. لاشك أنكم تعلمون الطائف وأهلها، وكيف قابلوا محمدا بالشرّ والأذى، أيام
كان في مكة يعاني صنوفًا من المصاعب والمعضلات.. إن أهل الطائف لما عرض عليهم
الرسول نفسه ليجيروه؛ جبّهوه ورَدّوه أقبح رَدّ، ولم يصغُوا إلَى دعوته، وإن سيد
الطائف ورئيسها عبد ياليل استهزأ به هو وعشيرته، وأغرى به طغام أهل الطائف
وسَفَلَتها ليسخَرُوا منه؛ فلما مَرّ بالطريق ـ وقد اصطفوا صَفّـيـن ـ ؛ رموه
بالحجارة؛ فجُرِحَت قدماه وسالت منهما الدماء علَى حِذَائه، وكان كلما جلس يستجمّ
من التَّعب يمنعونه من الجلوس، وإذا مرّ بهم يرجمونه بالحجارة. وإنّ ما لقيه من
أذى أهل الطائف لم ينسه طول حياته؛ ولقد سألته عائشة ـ بعد ذلك بتسع سنين ـ عن أشدّ
ما لقيه من البَلَاء؛ فأخبرها بأنه يوم الطائف، وكان بعد ذلك أن زحف المسلمون علَى
الطائف في السنة الثامنة للهجرة، وحاصروها فأطالوا حصارها؛ واستعصى عليهم حصنها
الحصين الَّذِي قُتِل فيه كثيرون منهم؛ فهَمّ محمد أن يرجع عنهم، لكن أصحابه أبوا
إلَّا الفتح، وسألوا محمدا أن يدعو علَى أهل الطائف؛ فرفع يديه إلَى السماء يدعو
فقال: اللهمّ اهْد أهل الطائف، اللهمّ ألِن قلوبهم للإسلام، ومَكّنه فيها!