قال الشاب:
العامة من الناس يدركون ذلك.. ويوقنون به.
قال جعفر: عين البصيرة لها
درجات ومراتب كدرجات البصر ومراتبه([18])..
وليس للعارف منها إلا أكملها.
قال الشاب: فما أكملها؟
قال جعفر: أن ترى ما
تعرفه..
قال الشاب: كيف ذلك..
وأكمل المعارف وغايتها معرفة الله.. وقد حيل بينها وبين تحولها إلى رؤية، كما قال
تعالى:﴿ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ
الْخَبِيرُ﴾ (الأنعام:103)
قال جعفر: وقد قال النبي (ص) عندما سئل عن الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه؛
فإن لم تكن تراه فإنه يراك)([19])، وقال:
(اعبد الله كأنك تراه، واعدد نفسك في الموتى، واذكر الله عند كل حجر وكل شجر، وإذا
عملت سيئة فاعمل بجنبها حسنة، السر بالسر، والعلانية بالعلانية)([20])
قال الشاب: ألا ترى أن
هناك تناقضا بين الآية، وهذين الحديثين؟
قال جعفر: يستحيل أن يحصل
التناقض بين الوحيين.. فمحمد (ص) ﴿ مَا
يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ (النجم)
الأول: الشك، وهو أن يعتدل التصديق والتكذيب، كما إذا
سئلت عن شخص معين، أن الله تعالى يعاقبه أم لا؟ وهو مجهول الحال عندك، فإن نفسك لا
تميل إلى الحكم فيه بإثبات ولا نفى، بل يستوي عندك إمكان الأمرين.
الثاني: الظن، وهو أن تميل نفسك إلى أحد الأمرين مع
الشعور بإمكان نقيضه، ولكنه إمكان لا يمنع ترجيح الأول، كما إذا سئلت عن رجل تعرفه
بالصلاح والتقوى أنه بعينه لو مات على هذه الحالة هل يعاقب؟ فإن نفسك تميل إلى أنه
لا يعاقب أكثر من ميلها إلى العقاب وذلك لظهور علامات الصلاح. ومع هذا فأنت تجوز
اختفاء أمر موجب للعقاب في باطنه وسريرته فهذا التجويز مساو لذلك الميل ولكنه غير
دافع رجحانه.
الثالث: أن تميل النفس إلى التصديق بشيء بحيث يغلب
عليها ولا يخطر بالبال غيره ولو خطر بالبال تأبى النفس عن قبوله، ولكن ليس ذلك من
معرفة محققة، إذ لو أحس صاحب هذا المقام التأمل والإصغاء إلى التشكيك والتجويز
اتسعت نفسه للتجويز، وهذا يسمى اعتقاداً مقارباً لليقين.
الرابع. المعرفة الحقيقية الحاصلة بطريق البرهان الذي
لا يشك فيه ولا يتصور الشك فيه.