قال جعفر: إذا
اندمجت مع كيانه، أو صارت لها السلطة على كيانه.. فحينذاك تتوحد نفسه وعقله وقلبه
وروحه وكل لطائفه على مقتضيات معرفته.
قال الشاب: لقد أشار
القرآن إلى هذا، فذكر أن الكفار لم يقف بينهم وبين الإيمان برسول الله (ص)حجب من الشبهات، بل وقف بينهم وبينها حجب من
الشهوات، فقال تعالى:﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ
فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ
يَجْحَدُونَ﴾ (الأنعام:33)
قال جعفر: وهكذا الكثير
ممن تراهم يشنون الغارات على النبوة وما جاءت به النبوة.. إن أكثرهم لا يصدر في
ذلك عن شبهة محترمة قد تناقش.. وإنما يصدرون عن شهوات جامحة لا يمكن السيطرة
عليها.. لقد أتيح لي أن ألتقي الكثير من هؤلاء.. ورأيت منهم ما رأيت..
قال ذلك بألم يكاد يعتصره
اعتصارا، فأرادت الشاب أن يغير مجرى الحديث، فقال: فالمعرفة إذن يقين، تنطلق منه
معايشة!؟
قال جعفر: أجل.. فلا يمكن
لليقين الذي ملأ كيانك إلا أن يملأ جوارحك، فلا تتحرك إلا بصحبته، ولا تسير إلا
على هديه.
قال الشاب: فحدثني عن
الركن الأول من أركان المعرفة.
قال جعفر: لقد قال الشاعر
الصالح معبرا عنه:
قلوب العارفين لها عيون ترى ما لا يرى للناظرين
قال الشاب: لا أرى الناس
إلا يشتركون في أبصارهم، ولا أرى الأبصار إلا تشترك فيما تراه، بل إن من الجاحدين
من اخترع من الأجهزة ما استطاع به أن يبصر ما لا يراه الموقنون.
قال جعفر: ليس الشأن في أن
ترى ببصرك.. ولكن الشأن في أن ترى ببصيرتك ﴿ فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ
وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ (الحج: 46)
قال الشاب: أيمكن أن تعمى
البصيرة؟
قال جعفر: أجل.. حين تضع
الحجب بينها وبين الحقائق الجلية، أو حين تصرف وجهها عنها.