وإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار
ويمسح خاصرته، وحوله عصبة، قد تفرق عنه الاحزاب، وهو يقول: الرحيل الرحيل.
ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك، فانتزعت
سهما من كنانتي أبيض الريش، فوضعته في كبد القوس لأرميه في ضوء النار، فذكرت قول
رسول الله (ص): (لا تحدثن في القوم شيئا، حتى تأتيني)، فأمسكت ورددت سهمي.
فلما جلست فيهم أحس أبو سفيان أن قد دخل
فيهم غيرهم، فقال: يأخذ كل رجل منكم بيد جليسه، فضربت بيدي على يد الذي عن يميني،
فأخذت بيده، فقلت: من أنت؟ قال: معاوية بن أبي سفيان، ثم ضربت بيدي على يد الذي عن
شمالي، فقلت: من أنت؟ قال: عمرو بن العاص، فعلت ذلك خشية أن يفطن بي، فبدرتهم
بالمسألة، ثم تلبثت فيهم هنيهة.
وأتيت بني كنانة وقيسا، وقلت ما أمرني به
رسول الله (ص)، ثم دخلت في العسكر، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر، ونادى عامر بن
علقمة بن علاثة: يا بني عامر، إن الريح قاتلتي وأنا على ظهر، وأخذتهم ريح شديدة،
وصاح بأصحابه.
فلما رأى ذلك أصحابه جعلوا يقولون: يا
بني عامر، الرحيل الرحيل، لا مقام لكم.
وإذا الريح في عسكر المشركين ما تجاوز
عسكرهم شبرا، فوالله إني لاسمع صوت الحجارة في رحالهم، وفرشهم والريح تضرب بها،
فلما دنا الصبح نادوا: أين قريش؟ أين رؤوس الناس؟ فقالوا: أيهات، هذا الذي أتينا
به البارحة، أين كنانة؟ فقالوا: أيهات، هذا الذي أتيتا به البارحة، أين قيس؟ أين
أحلاس الخيل؟ فقالوا: أيهات، هذا الذي أتينا به البارحة.
فلما رأى ذلك أبو سفيان أمرهم بأن تحملوا
فتحملوا، وإن الريح لتغلبهم على بعض أمتعتهم حتى رأيت أبا سفيان وثب على جمل له
معقول، فجعل يستحثه ولا يستطيع أن يقوم، حتى حل بعد.
ثم خرجت إلى رسول الله (ص) فلما انتصف بي
الطريق، أو نحو ذلك إذا أنا بعشرين فارسا أو نحو ذلك معتمين، قالوا: أخبر صاحبك أن
الله تعالى كفاه القوم بالجنود والريح.
فرجعت إلى رسول الله a وهو مشتمل في شملة
يصلي، فوالله ما عدا أن رجعت راجعني القر، وجعلت أقرقف، فأومأ إلي رسول الله a بيده، وهو يصلي،
فدنوت منه، فسدل علي من فضل شملته ـ وكان رسول الله a إذا حزبه أمر صلى ـ فأخبرته خبر
القوم، وأني تركتهم يرحلون، فلم أزل نائما حتى جاء الصبح فلما أن أصبحت قال رسول