إن هذا التأثير العجيب
الذي يحدثه سماع القرآن في النفوس إعجاز قائم بذاته.. لقد ذكر بعض القدماء من
علماء المسلمين ذلك، فقال:( في إعجاز القرآن وجه آخر ذهب عنه الناس، فلا يكاد
يعرفه إلا الشاذ من آحادهم، وذلك صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس، فإنك لا تسمع
كلاماً غير القرآن منظوماً ولا منثوراً، إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة
والحلاوة في الحال، ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به
النفوس وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها الوجيب
والقلق، وتغشاها الخوف والفرق.. تقشعر منه الجلود، وتنزعج له القلوب، يحول بين
النفس وبين مضمراتها وعقائدها الراسخة فيها، فكم من عدو للرسول من رجال العرب
وفتاكها أقبلوا يريدون اغتياله وقتله فسمعوا آيات من القرآن، فلم يلبثوا حين وقعت
في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول، وأن يركنوا إلى مسالمته ويدخلوا في دينه،
وصارت عداوتهم موالاة، وكفرهم إيماناً )([152])
لم يكن هذا اكتشاف
الأقدمين فقط.. بل إن المحدثين بما طوروه من علم الموسيقى اكتشفوا كثيرا من هذه
الأنظمة الصوتية الدقيقة التي كسي بها القرآن.. إنه أنغام تبهر العقول، وتذهل
النفوس، رصفت ألفاظه وعباراته على ترصيفات موسيقية رقيقة، متناسبات الأجراس،
متناسقات التواقيع، في تقاسيم وتراكيب سهلة سلسة، عذبة سائغة، ذات رنّة وجذبة
شعرية عجيبة، واستهواء سحريّ غريب.