قال ابن
الراوندي: لا بأس.. لا بأس.. لكن وضح لي ما الذي تريده من الرجحان دون مرجح.
قال الراوندي:
المراد منه بديهية من بديهيات العقول، وهي أنه يستحيل أن يكون الشيء جاريا على نسق
معين، ثم يتغير عن نسقه، ويتحول عنه بدون وجود أي مغير أو محول إطلاقا.. إن هذا من
الأمور الواضحة البطلان، وجميع العقلاء يعلمون أن الأصل بقاء ما كان على ما كان
عليه، ولا بد ـ لتحويله عن حاله السابقة ـ من محول ومؤثر يفرض عليه هذا الوضع
الجديد، وينسخ حاله القديمة.
قال ابن
الراوندي: أسلم لك بهذا.. ولكن كيف تستدل به على ما نحن فيه؟
قال الراوندي:
بالتأمل في الأشياء تجد أنها جميعا لا تخلو من ثلاثة أوصاف: الوجوب والاستحالة،
والإمكان([75]).
فما اتصف
بالوجوب استحال في العقل عدمه.. وما اتصف بالاستحالة استحال في العقل وجوده.. وما
اتصف بالإمكان أجاز العقل وجوده وعدمه..
[75] الواجب: هو ما لا يتصور العقل نفيه، أي ما لا يمكن للعقل أن ينفك عن إثباته..
والاستحالة ضد الوجوب فهي عدم قبول الثبوت في العقل، فالمستحيل ما لا يتصور العقل
ثبوته، أي أن العقل لا ينفك عن نفيه وسلبه والحكم بعدمه كلما عرض مفهومه على
العقل.. أما الجواز أو الإمكان العقلي فهو تمام القسمة العقلية بين الوجوب
والاستحالة، فهو قبول الثبوت والانتفاء في العقل؛ فالجائز العقلي هو ما يتصور
العقل ثبوته ونفيه، أي أنه عند عرضه على العقل فإن العقل ينفك عن إثباته كما ينفك
عن نفيه.
ودليل الحصر أن المعلوم إما أن لا ينفك العقل عن إثباته وهو الواجب،
أوْ ينفك عن إثباته كما ينفك عن نفيه وهو الجائز، أو لا ينفك عن نفيه وهو الممتنع
لذاته، ولا ثالث بين الإثبات والنفي.. فثبت بذلك انحصار الأحكام المذكورة في الثلاثة.