حين يأخذ من ماء البحر يداخله سمك صغار فتسقط منه فيصيدها صقور الملك فيمتحنون بها سلالة النّبوّة ، فأدهش ذلك المأمون فنزل عن فرسه وقبّل رأسه وتذلّل له ثمَّ زوَّجه ابنته ( 1 ) . والظاهر أنَّ جميع ذلك حقّ لأنّ الشئ الواحد قد يكون له أسباب متعدّدة وفي جميع ذلك دلالة على الحكيم القدير المدبّر للأشياء على أحسن ما ينبغي . فان قال قائل : إنّما ينزل المطر من السحاب بطبعه لأنّه ثقيل فأي دلالة فيه على ما ذكرتم ؟ قلنا : أولا : هذا الطبع له ليس من قبل نفسه بالضرورة فمن أعطاه إيّاه دون غيره من الأجسام الخفيفة مع اشتراكهما في الجمسيّة ؟ ومن أسكنه في جوّ السماء وكبد السحاب بحيث ينزل تارة دون أُخرى مع اقتضاء طبعه نزوله وعدم استقراره ؟ ومن ساقه من جوّ إلى جوّ مع اقتضاء طبعه الحركة إلى المركز ؟ وثانياً : أنّه إذا نزل بطبعه لثقله فلم يتصاعد إلى أعالي الشجر والأوراق والنباتات من المسامات الضيّقة والعروق الدّقيقة ليصل منافعه إلى كلِّ جزء من أجزائها ؟ ولو قال : صعود لجذب قواها الجاذبة إيّاه ، قلنا له : من أعطاها تلك القوى التي تفسره إلى الصعود المخالف لمقتضى طبعه فيرجع الكلام بالآخرة إلى وجود واجب الوجود الذي بأمره وتدبيره يتحرّك الماء فيما بين الأرض والسماء ، من شرق إلى غرب ومن غرب إلى شرق ، ومن شمال إلى جنوب ومن جنوب إلى شمال ، ومن علوّ إلى سفل ، ومن سفل إلى علوّ ، ذلك تقدير العزيز العليم ، وأمّا الثالث : فهو أشار إليه سبحانه بقوله ( فأحيا به الأرض بعد موتها ) أي بسبب ما يتبعه من النباتات والحيوانات والكلام هنا في ثلاثة أُمور ، الأوّل : في كون النبات والحيوان حياة الأرض ، ومجمل القول فيه أنّ نسبة النبات والحيوان الأرض كنسبة النفس إلى الحيوان فكما أنّ الحيوان بلا نفس ميّت عديم المنفعة ، كذلك الأرض بلا نبات ولا حيوان ، ومن ثمَّ قيل : الأرض بما فيه من النبات والحيوان بمنزلة حيوان واحد تموت عند الجدب والشتاء ويحيى عند الخصب والرّبيع . والثاني : في أنّ الماء سببٌ لحياة النبات والحيوان وهما يحتاجان إليه احتياجاً شديداً ، ووجهه ظاهر لأنّ القوى النباتية والحيوانية في جذب الغذاء والإلصاق والتنمية تحتاج إلى ماء يرطب ذلك الغذاء ويعدّه للنفوذ في المنافذ الضيّقة ويعين تلك القوى في أعمالها ، وإذا فقد الماء بطلت أعمالها وإذا بطلت أعمالها عدم الحيوان والنبات وبالجملة الإنسان وسائر الحيوانات والزُّروع وساير النبات يحتاجون إليه في الوجود والنموّ والبقاء احتياجاً شديداً . وقال صاحب العدّة روي أنّ بعض الوعاظ دخل على هارون الرشيد فقال له هارون عظني ، فقال : أراك لو منعت شربة ماء عند عطشك بم كنت تشتريها ؟ قال : بنصف ملكي ، قال : أتراها لو حبست عنك عند خروجها بم كنت تشتريها ؟ قال : بالنصف