أقبل على أولئك الأبطال فقال لهم : " الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معائشهم فإذا محصوا بالبلاء ، قل الديانون " . ( 1 ) يا لها من كلمات مشرقة حكت واقع الناس في جميع مراحل التأريخ ، فهم عبيد الدنيا في كل زمان ومكان ، وأما الدين فلا ظل له في أعماق نفوسهم ، فإذا دهمتهم عاصفة من البلاء تنكروا له وابتعدوا منه . . . نعم . . إن الدين بجوهره تجده عند الإمام الحسين وعند الصفوة من أهل بيته وأصحابه حيث امتزج بمشاعرهم ، وتفاعل مع عواطفهم فانبروا إلى ساحات الموت ليرفعوا شأنه ، وقد أعطوا بتضحيتهم دروسا لأجيال الدنيا في الولاء الباهر للدين . وبعد حمد الله والثناء عليه خاطب أصحابه قائلا : " أما بعد : فقد نزل بنا ما قد ترون . وان الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها ، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل . ألا ترون إلى الحق لا يعمل به ، وإلى الباطل لا يتناهى عنه ؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله ، فاني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما " . لقد أدلى بهذا الخطاب عما نزل به من المحن والبلوى ، وأعلمهم أن الظروف مهما تلبدت بالمشاكل والخطوب فإنه لا ينثني عن عزمه الجبار لإقامة الحق الذي خلص له . وقد وجه ( عليه السلام ) هذا الخطاب لأصحابه لا ليستدر عواطفهم ، ولا ليستجلب نصرهم ، فماذا يغنون عنه بعدما أحاطت به القوى المكثفة التي ملئت البيداء ، وإنما قال ذلك ليشاركونه المسؤولية في إقامة الحق الذي آمن به واختاره قاعدة صلبة لنهضته الخالدة ، وقد جعل الموت في هذا السبيل هو الأمل الباسم في حياته الذي لا يضارعه أي أمل آخر . ولما أنهى خطابه هب أصحابه جميعا ، وهم يضربون أروع الأمثلة للتضحية والفداء من أجل العدل والحق ( 2 ) . هل تمعنت أيها المسلم كيف يعلمنا الحسين ( عليه السلام ) أن من الأخلاق أن تعلن الحقيقة لمن يرافقك ؟ فهذا من مفردات الأمانة والصدق والشجاعة .
1 - بحار الأنوار / ج 78 ص 116 . 2 - حياة الإمام الحسين / ج 3 ص 97 .